أوقات صلاة النبي ﷺ: توازن بين التيسير والانضباط

أثر القرآن
0

توازن بين التيسير والانضباط

■ الحديث: عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنهما - قال: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ: بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ: وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ: إذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ: أَحْيَاناً وَأَحْيَاناً، إذَا رَأَىهُمُ اجْتَمَعُوا: عَجَّلَ، وَإِذَا رَأَىهُمْ أَبْطَؤُوا: أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ». الهاجرة: هي شدة الحَرِّ بعد الزوال.

■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

_______________________________________

هَذَا الحَدِيث يبيِّن متى كَانَ الرَّسول ﷺ يُصلِّي الصَّلوَات الخَمْس، فبدأ بالهَاجِرَة؛ لأنَّهَا تُسَمَّى الأولى؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ لـمَّا نزل مِن المِعْراج أتاه جِبْرِيلُ فصلَّى به الظُّهر أَوَّل ما صلَّى به، فلِهَذا كَانَتْ تُسَمَّى الأولى، ويبدؤون بها.

فقَوْله: «يُصَلِّي الظُّهْر بِالهَاجِرة» الهاجِرة: شِدةُ حَرارَةِ الشَّمْسِ، وشدةُ الحَرارَةِ لا تَكُونُ إلا بعدَ الزَّوَال، فكأنَّهُ قال: يصلِّي الظُّهْرَ إِذَا زالتِ الشَّمْسُ.

أي صَلَاة الظُّهر، «بِالهَاجِرَة» والبَاء بمَعْنَى (في) فهِي للظَّرفِيَّة، كَقَوْل الله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ﴾ [الصَّافات:١٣٧-١٣٨]، أي: «وفي اللَّيل».

والهاجِرة فسرها المُؤَلِّف  بِقَوْلِه: «شِدَّة الحَرِّ بَعْد الزَّوَال»؛ لأنَّ الشَّمْس أشد حرًّا بعد الزَّوَال، ولِهَذا كانوا يقيسون الدَّرجة الصُّغرى للبرد، أو الكبرى للحر بعد الزَّوَال بسَاعَة.

«والْعَصْر» أيْ ويُصَلِّي العَصْر، «وَالشَّمْس نَقِيَّة» الجُملَة هنا حال، نقيَّة أي: بيضاء لم تَمِلْ إِلَى الاصفِرار، أيْ يُصلِّي العَصْر والحال أنَّ الشَّمْس نقيَّة لم تصفرَّ، فنقاؤُها بمَعْنَى بقاء بياضها، «وَالمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ» أي إِذَا وجبَتْ بعد غُرُوب الشَّمْس أو إذَا وجبت الشَّمْس بأنْ تَكُون سقَطَتْ، ولا يتأخَّر؛ لأنَّ الوُجُوب في اللُّغة السُّقوط، وغيابها سُقُوطها؛ فيَحْتَمِل المعْنَيَيْن.

وعلى الأَوَّل فلَا إِشْكَال في مرجع الضَّمير، فإن الضَّمير في قَوْلِه: «إذَا وجبَتْ» يعود عَلَى المَغْرِب، أما إِذَا قلنا (وَجبَتْ) بمَعْنَى غابت، فيقال إنَّ مرجع الضَّمير مَحْذُوف لِلْعِلم به، كقَوْله : ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص:٣٢]، فالشَّمْس هي الَّتي توارَتْ، ولم يُسْبَق لـها ذِكْر لكِنْ عُلِمَ مِن قرينة الحال.

«وَالْعِشَاء أَحْيَانًا وَأحْيَانًا»، فأَحْيانًا يُبكِّر، وأَحْيانًا يؤخر.

و«أَحْيَانًا» مصْدَر ظرف عامِلُه مَحْذُوف، أيْ أَحْيانًا يُعَجِّل وأَحْيانًا يؤخِّر، ثُم فصل هذا بِقَوْلِه: «إذَا رَآهُمْ» أي رأَى المُصَلِّين «اجتمَعُوا عجَّلَ»؛ لئلَّا يَشُقَّ علَيْهم بالانْتِظَار، وإذَا رآهُم أبْطَؤُوا أخَّر؛ لأنَّ هَذا هُو الأفْضَل، فكان النَّبيُّ  يراعِي الْأَفْضَل والأرفَق.

ومُرَاعَاة الأرفق تَظهر في قَوْلِه: «إِذَا رَآهُم اجْتمَعُوا عَجَّل»، ومُرَاعَاة الْأَفْضَل: «وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَؤوا أَخَّرَ» وإلا لكان يعجل، وإِذَا رأَوْه يُعجِّل تقدَّمُوا لكِنْ يُراعِي الْأَفْضَلَ، والْأَفْضَلُ في الْعِشَاء الآخِرَة التَّأخير.

إذن، في هذا دَلِيل عَلَى أنَّ الْعِشَاء يتبع فيها الأَرْفَق بالنَّاس، فإِذَا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإِذَا رآهم أبطؤوا أخَّر، فإنْ تسَاوَى عند النَّاس التَّقديم والتَّأخير؛ فالْأَفْضَل التَّأخير، والدَّليل عَلَى هذا مِن الحَدِيث نفسه أنَّه لو كَانَ الْأَفْضَل التَّقديم مطلقًا؛ لقَدَّم، وإِذَا قدَّم فَسَوْفَ يتعجَّل النَّاس ولن يتأخروا؛ فعُلِم بذَلِك أنَّ تَأْخِيرَها أفْضَلُ ما لم يَجْتَمِع النَّاس.

«والصُّبحَ» أو نَقُول: «الصُّبحُ» فيَجُوز الوجهان، والنَّصب أرجح؛ لأنَّهَا معطوفة عَلَى جُمَل فِعْلِيَّة سبَقَتْها، وعلى هذا فيَكُون النَّصْب أَرْجَح، ويُقدَّر الْفِعْل والتَّقدير «ويُصلِّي الصُّبح».

«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ» أي مُبكِّرًا؛ لأنَّ الغلَس اختلاط مِثْلَيْه بنور النَّهار.

هَذِهِ هي أَوْقاتُ الصَّلوَاتِ الخَمْس، وبيانُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يبادر بالصَّلوَاتِ الخَمْسِ إلا وَاحِدَةً، وهي الْعِشَاءُ، فيراعي فيها مَجيء النَّاس وعَدَمه، فإِذَا جاؤوا عَجَّلَ، وإِذَا أبطؤوا أخَّرَ.

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: إنه يَنْبَغِي أن يبادِرَ بصَلَاةِ الظُّهرِ والشَّمْسُ حارَّةٌ، فتُصَلَّى مبكرًا؛ لِقَوْلِه: «بِالهَاجِرَة»، لكنْ يُسْتَثْنَى من ذَلِكَ ما إِذَا اشتدَّ الحَرُّ، فإِنَّه يُؤَخِّرُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمرَ به.

فإن قال قَائِل: ألم يقل النَّبيُّ : «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»؟

قلنا: بلَى، لكن لعلَّ هَذَا الحَدِيث كَانَ قبل أن يُنسَخ الأَمْر بالإبْرَاد، وعلى هذا يُستثنى من قَوْله: «بالـهَاجِرَة» ما إِذَا اشْتَدَّ الحـرُّ فـإِنَّه يُؤخِّرُها حَتَّى تنكسرَ الأَفْيَاء.

ومِقْدَار تَأْخِيرها حَتَّى يبرد الجو، فقد كَانَ النَّبيُّ ﷺ ذات يومٍ في سَفَرٍ، فقَام بِلالُ يؤذِّن، فقال: «أبرِد»، ثُم قام ليؤذن، فقال: «أَبْرِد»، ثم قام ليؤذن، فقال: «أبْرِدْ» حَتَّى سَاوى الظِّل فَيْئَه.

أي: سَاوى الشَّيْء فيئه، وهو أنَّ التُّلول صَار لـها ظِلٌّ يسَاويها، لكن بظل الزَّوَال؛ فقام فأذَّن، وَهَذَا يدُلّ عَلَى أنه كَانَ يؤخر إِلَى قرب العَصْر.

جمع فيء، وهو ما بعد الزوال من الظل.

تاج العروس (فيأ).

جمع تَل، وهو ما ارتفع من الأرض عما حوله، وهو دون الجبل.

المعجم الوسيط (تل).

إن قال قَائِل: هل هذا يَشْمَل الجُمُعَة والظُّهر؟

قلنا: لا، الجُمُعَة لا إِبْرَاد فيها؛ لِقَوْلِ سهل بن سعد : «مَا كُنَّا نَقِيلُ ولَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ»، والقيلولة: هي النَّوم وسط النَّهار، وَهَذَا يدُلّ عَلَى أنَّ الرَّسول ﷺ كَانَ لا يُبْرِد بصَلَاة الجُمُعَة.

ووجه ذَلِك: أنَّ الأرفق بالنَّاس في يوم الجُمُعَة التَّعجيل؛ لأنَّ النَّاس قد جاؤوا مبكِّرين، قد حثَّهُم الرَّسول  عَلَى التَّقَدُّم، فقال: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنـَّـمَا قَرَّبَ بَدَنَةً»، فأَصْبَح النَّاس حَاضِرين، والتَّأخير يشُقُّ علَيْهم؛ لأنَّ الإِبْرَاد لَيسَ أن يؤخر ربع أو نِصْف سَاعَة، أو سَاعَة! بل الإِبْرَاد يصل إِلَى سَاعتين ونصف بعد الزَّوَال، ولا شَكَّ أنَّ هذا سيشق عَلَى النَّاس، فلا تغدَّوا، ولا قالُوا.

إذن، كما أوْرَدْنا عَلَى حديث جَابِرٍ حديث الإِبْرَاد، وأجبنا عنه بأنه مخصِّص لحديث جَابِر، فَنُورِد عَلَى الإِبْرَاد صَلَاة الجُمُعَة؛ لأنَّهُ أرفق بالنَّاس، وأصل الإِبْرَاد أنه شُرع للتَّخفيف مِن الحر، لأن في عهد الرَّسول ﷺ لَيسَ هُناكَ سيارات مُكيَّفة، ولا مسَاجد مكيَّفة.

وبما أنَّ الجُمُعَة لا يُسَن لـها الإِبْرَاد؛ تبيَّنَ أنَّ لـها أَحْكَام خاصَّة لا توافق الظُّهر، وأنَّ بَيْنَها وبيْنَ الظُّهر فروقًا تبلغ أكثر مِن عشرين فرْقًا، منها:

أنَّ العَصْر لا تُجْمَع إِلَى الجُمُعَة فيما لو كَانَ الإِنْسَان مُسَافِرًا ثم دخل بلدًا يُصلِّي الجُمُعَة؛ لأنَّ النُّصُوص إِنَّما جاءَتْ في الجَمْع بين الظُّهر والعَصْر، والظُّهر له أَحْكَام

خاصَّة، والجُمُعَة لـها أَحْكَام خَاصَّة.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّ‍هُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- كَانَ يبادر بصَلَاة العَصْر؛ لِقَوْلِ جَابِر في صَلَاة العَصْر: «وَالعَصْرَ والشَّمْسُ نَقِيَّةٌ»، وهو كذَلِك كَانَ يبادر بها مِن حينِ دخُول وقتها.

ولا إِبْرَاد لصَلَاة العَصْر؛ لأنَّهَا في وقت إِبْرَاد، والسُّنة تعجيلُها مطلقًا، لِقَوْلِه: «والمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ»، وهو كذَلِك السُّنة بالمُبادَرَة بها.

ولكن هل مَعْنَاه مِن حين أن يؤذنَ فَيُقِيم؟

الجَوَاب: لا، والدَّلِيل عَلَى أن هذا لَيسَ المَعْنَى: قول النَّبيِّ : «صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِب، صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِب، صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ»، ثم قال في الثَّالثة: «لِمَنْ شَاءَ»، كراهيةَ أن يتخذها النَّاس سُنة، وَهَذَا يدُلّ عَلَى أنَّ بين الأذَان والإِقَامَة فرْقًا.

أضف إِلَى ذَلِك: أنَّ الإِنْسَان إِذَا أُذِّن للصَّلاة فَسَوْفَ يقوم ليَتوَضَّأ، وَهَذَا يأخذ وقتًا؛ فلا بُدَّ أن تُراعَى مثل هَذِهِ الأُمُور، وأنْ لا نَقُول إنَّ قَوْله: «إذَا وَجَبَت» أي مِن حين أن تغرب، لكن نَقُول مِن حين أنْ تَغْرب يتأهَّب للصَّلاة فيَتوَضَّأ، ثم يُصلِّي رَكْعَتَيْنِ قبل المَغْرِب، لكن لا يتخذها سُنة.

وإن قيل: هل وقتُ المَغْرِب يمتد إِلَى زَمَنٍ، أو بمُجرَّد صَلَاة المَغْرِب يَنْتَهي الوَقْت؟

فالجَوَاب: أنه لا يَنْتَهي وقتها إلَّا إِذَا دخل وقت الْعِشَاء، خلافًا لمن قال بخُرُوج وقتها إِذَا اشْتَبكَتِ النُّجوم وبانَتْ في السَّماءِ، فإنَّ هذا قولٌ لا دلِيلَ علَيْه.

• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: مُرَاعَاة أَحْوَال النَّاس حَتَّى في التَّقديم والتَّأخير، فإذَا اجتمعوا فالْأَفْضَل التَّعجيل مع أن صَلَاة الْعِشَاء الْأَفْضَل فيها التَّأخير؛ فيَنْبَغِي للإِنْسَان أن يراعي أَحْوَال النَّاس.

إنْ سألَ سائِلٌ: هل من المُرَاعَاة أنَّ الْإِمَام إِذَا تأخَّر لعذر عَنِ العَادَة بمِقْدَار عشر دقائق أنْ تُعَجَّل الصَّلَاة ويُسرَع في أدائها عَلَى الإتيان بأدنى الوَاجِبَات، مع الْعِلْم أنَّ أدنى وَاجِب في الصَّلَاة: ألَّا يستَفْتِح الْإِمَام بدُعَاء الاسْتِفْتَاح، وألَّا يقول: «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم» في الفَاتِحَة، ولا يَقُول: «آمِين»، ولا يقرأ شيئًا آخَر، ولا يَزِيد عَلَى (سبحان ربي العَظِيم) في الرُّكُوع، ولا عَلَى (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) في النُّهوض، ولا عَلَى وَاحِدَة (سبحان ربي الأَعْلَى)، ولا عَلَى قَوْله: «ربِّ اغفر لي» بين السَّجدتين، ولا عَلَى التَّشهد الأوَّل والأخِير إِلَى (وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورَسُوله، اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى مُحمَّد)؟

الجَوَاب: نعم، رُبَّما نَقُول الْأَفْضَل أنْ تُخفَّف الصَّلَاة؛ لأنَّهُ رُبَّما يَكُون بَعْض النَّاس لـه أشغـال وقـد رتَّب وقته في سَاعَـةٍ مُعيَّنةٍ أن يَنْتَقِل إِلَى شغـل آخَـر بعد الصَّلَاة.

وقد يقال: لا، بل يَأْتِي بها عَلَى العَادَة كَامِلة؛ لئلَّا يقول قَائِل: «أَحَشَفًا وَسُوءَ كَيْلٍ»، ويمنعنا مِن أداء الصَّلَاة عَلَى الوَجْه الأتَم.

فأَصْبَح الْإِمَام يتحير بين أمرين: أنْ يخفف جبْرًا لتَأْخِيره في الزَّمان، أو يَأْتي بِها كَامِلَة، ويُعتبر ذَلِك عذرًا، والعُذْر عند كِرَام النَّاس مقْبُولٌ، والْأَفْضَل مُراعاة حال المأمُومِين.

لكن لو فُرض أنَّ الْإِمَام دخل في الصَّلَاة عَلَى العَادَة، ثُمَّ نزَل المطَرُ بغَزارَةٍ، أو تلبَّدَت الْغُيومُ، وكَثُرَتِ الرُّعودُ والْبُروقُ، فَهل مِن الْأَفْضَل أن يُعجِّل ويُسرع في الصَّلَاة؟

نقول: نعم، الرَّسول ﷺ كَانَ إذَا سَمِع بُكاء الصَّبِيِّ أوْجَزَ في صَلَاته؛ مُرَاعَاةً لحال الطِّفل وأُمِّه، ولا شَكَّ أنَّ الْإِمَام في الوَاقِع يُعتبَر كالْإِمَام العام، يجب أنْ يُرَاعِيَ أَحْوَال النَّاس.

ويُستَفادُ منه المُبادَرةُ بصَلَاةِ المَغْرِبِ؛ لأنَّهُ يقولُ: «والمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ».

• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: ترك السُّنة لطلب الرِّفق.

وجهه: أنَّ الرَّسول ترك تَأْخِير الْعِشَاء مِن أجْل الرِّفق بالنَّاس، ولا شَكَّ أنَّ الرَّسول ﷺ أحكم الرَّاعين للخَلْق، فلَوْلَا أنَّ هذا هو الشَّرع ما فعله، وَهَذَا هو الَّذي يَنْبَغِي للإِنْسَان أن يَكُون سَائسًا للخَلْق بما ينفعهم، ويُخَفِّف علَيْهم الشَّريعَة، وكُلَّما كَانَتِ الشَّريعَة مُسَهَّلة أمام النَّاس؛ كَانَ قبولـهم لـها أشَد.

فيَنْبَغِي لك أنْ لَا تشدِّد عَلَى النَّاس في الشَّريعَة، وما وَجَدْتَ للتَّسهيل سَبِيلًا فاسلُكْه.

أَلَيْس الرَّسول يُوصِي الدُّعاة بالتَّيْسِير، ويقول: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُنَفِّرِينَ»؟

!وكثير مِن النَّاس يقول: أعامل النَّاس بالشِّدة حَتَّى يَخْضَعُوا للأسْهَل، وَهَذَا غَلَطٌ، بل عامِلْهم بالأَسْهَل حَتَّى يقْبَلُوا الشِّدةَ.

• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: المُبادرة بصَلَاة الصُّبح؛ لِقَوْلِه: «كانَ النَّبيُّ ﷺ يُصَلِّيهَا بِغَلَس»، ولكن صَلَاة الصُّبح قبلها سُنة مؤكَّدة مِن آكَد الرَّواتِب؛ فلا بُدَّ بعد الأَذَان أنْ يَتوَضَّأَ الإِنْسَان ويُصلِّيَ الرَّاتبة، ثُم يُصلِّي الْفَرِيضَة.

في وقْتِنا الحَاضِر نَجِدُ بَعْض المؤذِّنِين -نسأل الله لـهم الهِدَايَة- يتقَدَّمُون في أَذَان الْفَجْر، فيَنْبَغِي أنْ تحتاط وتُضِيف إِلَى أذَانِهم خمس دَقائِق بعْد الأذَان، وكأنَّهُ أذَّن بعد خمس دقائق؛ لئَلَّا تصليَ قبل وقتها.

فإن قال قَائِل: لماذا كَانَتِ السُّنة أن تُؤَخَّرَ صَلَاةُ الْعِشَاء؟

قلنا: لئلَّا يطولَ فصل ما بين صَلَاتَي الفَجْر والعِشَاء، والله  بحِكْمَتِه يُحب مِن عباده أن يَكُونوا عَلَى صِلَةٍ به عن قُرب؛ ولِهَذا تَجِد الأَوْقات مُتقاربة ما عدا الْفَجْر والعِشَاء؛ لأنَّ بَيْنَهما صَلَاة اللَّيل، ولأنَّهُ يَشُق عَلَى النَّاس إِذَا قيل لـهم لا تُصَلُّوا العِشَاء إِلَى بعْد نصْفِ اللَّيل -مثلًا- كما لا تُصلُّوا الظُّهر إلَّا بعد نصف النَّهار.

فإن قيل: كَثِيرٌ من النَّاس لا يُفرِّقُون في الشَّريعَة بين العزيمة والرُّخصة، فإِذَا وجدوا اخْتِلَافا لبَعْض العُلَمَاء يأخُذونَ بِما يرَوْنَه أسْهَل دون الرُّجوع للدَّليل؟

الجَوَاب: هؤُلاءِ يتتبعون الرُّخَص، والوَاجِب فِيمَنْ لَا يَسْتطِيع أنْ يعرف الدَّليل بنفسِهِ أنْ يتبعَ مَن يَرى أنَّه أقْربُ إِلَى الصَّواب؛ لغزارة علمه، وقوة إيمانه.

فإن لم يعرف، فلِلْعُلَماء في ذَلِك ثَلاثَة أَقْوَال:

الْقَوْل الأَوَّل: يُخَيَّرُ بينهما؛ لِتَسَاوِي الطَّرفَيْن عنده.

الْقَوْل الثَّانِي: يأخذُ بالأشد؛ لأنَّهُ أحْوَط.

الْقَوْل الثَّالث: يَأخذُ بالأيْسَر؛ لأنَّهُ أوْفَق للشَّريعَة.

والأخير هو الصَّحيح، أما إِنْسَان يتَتبَّع الرُّخَص؛ فلا يَجُوز، لأنَّهُ لو فعل ذَلِك لَـمَا كَانَ له دِين في بَعْض الأَحْيَانِ.

وفي هَذَا الحَدِيث: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاء إِلَى أن يجتمعُوا: «إذَا رآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وإذَا رآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ«.وفيهِ أيضًا: حُسْنُ رِعايةِ النَّبِيِّ ﷺ وذَلِك بمُراعاةِ النَّاسِ، فإِذَا اجتمعُوا عَجَّلَ، وإِذَا أبطؤوا أَخَّرَ، مع أنه يُسْتَحَبُّ أن يُؤَخِّرَ من الْعِشَاء، لكنَّ مُرَاعَاةَ أَحْوَالِ المَأْمُومينَ أفضلُ.----------------------------كتاب مواقيت الصَّلاة، باب وقت المغرب، رقم (٥٣٥)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، رقم (٦٤٦).كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٥١١)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٦١٥).كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٥١١)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٦١٦).كتاب الاستئذان، باب تسليم الرِّجَال على النِّساء والنِّساء على الرِّجَال، رقم (٥٨٩٤)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشَّمس، رقم (٨٥٩).كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، رقم (٨٤١)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، رقم (٨٥٠).أخرجه أبو داود: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة قبل المغرب، رقم (١٢٨١).مجمع الأمثال (١ / ٩٠).كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، رقم (٦٩)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتَّيسِير وترك التنفير، رقم (١٧٣٤)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:52

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)