الصلاة، بر الوالدين، والجهاد: مراتب الفضائل في الإسلام

أثر القرآن
0


مراتب الفضائل في الإسلام

الحديث: عن أبي عمرو الشيباني - واسمه سعد بن إياس - قال: حدثني صاحب هذه الدار ــ وأشار بيده إلي دار عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الأعمالِ  أَحَبُّ إلَى اللَّهِ - عز وجل -؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي».

■ حكم الحديث: متفق عليه


■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

________________________________________

قَـوْله: «المَواقِيت»: الجَمْع مِيقات، وهـو زمـن الوَقْت، وتُعتبَر المَواقِيت مِن شُرُوط الصَّلَاة؛ لأنَّ الصَّلَاة تصِحُّ بعدَه للعُذْر إلَّا الجُمُعَة، فلو خَرج وقْتُها ولو لعذر فإِنَّها لا تُقام جمُعَة، وإِنَّما تقام ظُهرًا.

ودخُول وقت الصَّلَاة مِن آكَد شُرُوطها، ولِهَذا قد تُهْدَر بَعْض الشُّروط الَّتي إِذَا أُقِيمَت فات الوَقْت، كالطَّهارَة -مثلًا- إِذَا جاء الوَقْت ولَيسَ هُناكَ ماء فننتَظِر حَتَّى يوجَد الـمَاء، أو نُصلِّي ولو بالتَّيَمُّم الثَّانِي، فإن لم يوجد مَا يُتيَمَّم به، أو عجَز الإِنْسَان عَنِ التَّيمُّم لكَوْنِه مغلولَ الْيَديْنِ، وكذَلِكَ الْأَرْكَانُ إِذَا تعارضَتْ مع الوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أن يتحركَ فإِنَّه يُصلِّي حَسَبَ حاله.

وبِهَذا نَعـرف ضـلال قـوم مِن المَرْضَى إِذَا كانـوا لا يَسْتَطِيعون الوُضـوءَ، ولا التَّيمُّم، ولا تطْهِير ثيابِهم مِن النَّجاسَة، فيُؤَخِّرونَ الصَّلَاة حَتَّى يَقْدِروا عَلَى ذَلِك، وَهَذَا خطَـرٌ عَظِيمٌ لـو ماتَ الإِنْسَان علَيْه؛ خُشِيَ أنْ يَكُـون مِن أهـل النَّار -والعياذ بالله-؛ لأنَّهُ أخَّر الصَّلَاة عَن وَقْتِها بِلَا عُذْر شرعي.

فالوَقْت مُهَيْمِنٌ عَلَى بقية الشُّروط؛ ولِـهَذا يَنْبَغِي المُحافَظَة عَلَى الصَّلَاة في وقتها حَتَّى ولو فاتَتْ بَعْض الشُّروط كالطَّهارَة، وستر العَوْرَة؛ ولِـهَذا لو مر عَلَى الإِنْسَان الوَقْت وهو لا يجد ثيابًا؛ فلا بُدَّ أنْ يُصليَ ولو عُريَانًا.

ولو مرَّ علَيْه الوَقْت وهو في حال لا يَسْتَطِيعُ التَّوَجُّهَ إِلَى القِبْلَة؛ فإِنَّه يُصلي عَلَى حَسَبِ حاله ولو كَانَتِ القِبْلَة خلفه، لأنَّ الوَقْت مُهَيْمِنٌ عَلَى جميع الشُّروط.

واعْلَم أنَّ الله  جعل الصَّلوَات مُوَقَّتة، ليست في آنٍ وَاحِد؛ لِحِكَمٍ عَظِيمَة يظهر لنا منها ثلاثُ حِكَم:

الحِكْمَة الأولى: أنْ لا يَسْـأمَ الإِنْسَـان أو يَمَـلَّ، أو يعجِـزَ، أو يتعبَ؛ لأنَّهَا إِذَا اجتمعت السَّبعَ عشرةَ ركعةً في آنٍ وَاحِد -ولا بُدَّ مِن طُمَأْنِينةٍ-؛ فرُبَّما تَكَاسَل أو تَعب.

الحِكْمَة الثَّانِية: اتحاد المُسْلِمينَ، فيمكن لبَعْض النَّاس أنْ يصلُّوا في أَوَّل النَّهار، وبَعْضهم في وَسَطِه، وبَعْضهم في آخِرِه، وبَعْضهم في اللَّيل؛ يحصل التَّفرُّق.

الحِكْمَة الثَّالثة: أنْ لا ينقطعَ العَبْد عن مُناجَاة ربه؛ لأنَّه لو كَانَتْ في وقتٍ وَاحِدٍ وأَتَى بِها جميعًا؛ بَقِي بَقِيَّةُ الوَقْت بلا مُناجاةٍ منقطعًا عن ربه .

الأَوْقاتُ قد دَلَّ علَيْها الكِتابُ والسُّنَّةُ، فمن أَدِلَّةِ أَوْقاتِ الصَّلَاةِ في القُرْآنِ قولُه تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء:٧٨].

ثُم إنَّ هذا التَّوقيت يَكُون بعلاماتٍ ظَاهِرةٍ عَظِيمَةٍ مِن آيات الله، وهي:

وقت الْفَجْر: هو وقت ظهور نور الشَّمْس، وهُو عِبارَةٌ عن انْتِقالٍ مِن زمن إِلَى زمن، ويستلزمُ الانتقال مِن حالٍ إِلَى حال.

وقت الظُّهر: زَوَال الشَّمْس حين تُسَجَّرُ جهنم، وحين يتغير الكون تغَيُّرًا عَظِيمًا، حيثُ تنتقل الشَّمْس من الجِهَة الشَّرقية إِلَى الغَرْبية وهَذِهِ آية كبرى.

وقت العَصْر: لا يَتَبَيَّنُ لي فيها حِكْمَةٌ.

وقت المَغْرِب: أنَّ النَّاس بغُرُوب الشَّمْس ينتَقِلون مِن نهارٍ إِلَى ليل، وَهَذَا اخْتِلَاف عَظِيم جَوْهَرِيٌّ.

أي: تُوقَد.

المعجم الوسيط (سجر).

وقت الْعِشَاء: فكذَلِك؛ لأنَّهُ عند مغيب الشَّفَق الَّذي تنقطع به آثار الشَّمْس.

فالحَاصِلُ أنك إِذَا تأملْتَ توقيتَها في هَذِهِ المَواقِيتِ الخَمْسَةِ وجدْتَ لـها حِكْمَةً، ويكفينا أن نَقُولَ هَكَذا وقَّتهَا الله ؛ إذَا أرَدْنا أنْ نَسْلمَ مِن الاعتِرَاض والتَّشكيك، وكما أننا لا نسألُ لماذا كَانَ الظُّهر، والعَصْر، والْعِشَاء أَرْبَعًا ولَيسَ ثمانيًا؛ فكذَلِك لا نسألُ لماذا وُقِّتَ بِهَذَا الوَقْت، وإنْ تبَيَّنَتْ لنا حِكْمَةٌ فهَذِهِ من نِعْمَة الله .

وهل نَقُول إنَّ الحِكْمَة في وقت صَلَاة العَصْر أنَّها بين الظُّهر والمَغْرِب، لأن بينهما وقتًا طويلا؛ فاقتضت الحِكْمَة وُجُود العَصْر؟

الجَوَاب: نعم، رُبَّما نَقُول هذا، لكن يُورِد عَلَى الإِنْسَان الفرق أنَّ ما بين الْفَجْر والظُّهر أطْوَل مما بين الظُّهر والمَغْرِب أو مثْلُه، ثُمَّ أيضًا لَيسَ وقتُ صَلَاة العَصْر يدخل في النِّصف، وأَحْيانًا يَكُون بعد الظُّهر أطْوَلُ من العَصْر، وأَحْيانًا يَكُون العَصْر أطول من الظُّهر.

وهل نَسْتَطِيع أنْ نَقُول المَشَقَّة تنقض الوُجُوب؟

الجَوَاب: لَا، بل نَقُول: المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيسيرَ.

وهل صَلَاة المَغْرِب وقت مُوَسَّعٌ؟

الجَوَاب: نعم، وقت المَغْرِب إِلَى دخُول وقت الْعِشَاء.

مسألة: إذَا عَرَضَ لأحَدٍ عارضٌ فأخَّر الصَّلَاة، فهل له أنْ يُؤَخِّرَها أو يصلِّيَها عَلَى وقْتِها، وهل لا يلزمُ عَلَى مَن يغلِبُ عَلَى ظنه بأنَّ هذا العَارِض سيزول؟

الجَوَاب: إِذَا كَانَ يخشى مِن خُرُوج الوَقْت فَلْيُصَلِّهَا، إلَّا إِذَا كَانَ ممن يَجُوز له

الجمع وكَانَتْ تُجْمَع إِلَى ما بعدها فليَجْمَعْها، وإذَا علِمَ أنه سيَزولُ فينتظر، فقَدْ يَكُون وُجُوبًا وقد يَكُون غير وُجُوب.

وتحديد المَواقِيت كالتَّالي:

الْفَجْر: مِن طُلُوع الْفَجْر الثَّانِي إِلَى طُلُوع الشَّمْس.

الظُّهر: مِن الزَّوَال إِلَى أنْ يصيرَ ظل الشَّيْء مثله، بحيثُ إِذَا وَضَعْتَ عصًا صار لـها ظِلٌّ، ثم يبدأ الظِّل ينقص إِلَى آخر نُقْطةٍ، ثُمَّ يبدأ بالزِّيادة، وبداءتُه بالزِّيادة يعني أنَّ الشَّمْس زالَتْ.

العَصْر: مِن بعد أنْ يَصِيرَ الظِّل مِثْلَيِ الشَّيْء، والضَّرورَة فيه إِلَى غُرُوب الشَّمْس، فمَن أدرك ركعة مِن العَصْر قبل أنْ تَغْرُب الشَّمْس فقد أدرك العَصْر.

المَغْرِب: إِذَا غابت الشَّمْس ما لم يسقط الشَّفق الأحمر.

العِشَاء: إِلَى نِصْف اللَّيل.

فهَذِهِ خَمْسَة أَوْقات، وتَكُون عند العُذْر ثَلاثَة، كما في الجَمْع.

وبيان ذَلِك: أنَّ الْفَجْـر وقته مُسْتَقِـرٌّ، ويندمج وقت الظُّهـر ووقت العَصْر؛ فيَكُونان وقتًا وَاحِدًا، وينْدَمِج وقت المَغْرِب والْعِشَاء؛ فيَكُونان وقتًا وَاحِدًا، فتصير الأَوْقات ثلاثًا.

الظُّهْرُ إِذَا خرجَ وقتُه دَخَلَ وقتُ العَصْرِ مباشرةً، والعَصْرُ إِذَا خَرَجَ وقتُه دَخَلَ وقتُ المَغْرِبِ مباشرةً، والمَغْرِبُ إِذَا خَرَجَ وقتُه دَخَلَ وقتُ العِشَاءِ مباشرةً، والْعِشَاءُ إِذَا خَرَجَ وقتُه لم يدخلْ وقتُ الفَجْرِ، فمِنْ نصفِ اللَّيل إِلَى طُلوعِ الفَجْرِ ليسَ وقتًا للصَّلاة المفروضةِ.

ومن السُّنَّةِ: حديثُ عبدِ الله بنِ عمرِو بن العاصِ ، حيثُ فصَّلَ النَّبِيُّ  هَذِهِ الأَوْقاتِ، فقال: «وقتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَـمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَـمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ المَغْرِبِ مَا لَـمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلى نِصْفِ اللَّيْلِ، ووَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَـمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ».

وهَذَا الحَدِيثُ يُفَصِّلُ، لكنَّ فيه إِشْكَالًا؛ لأنَّهُ قال: «وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ«، ونحن ذكرْنَا أنَّ وقتَ العَصْرِ يمتدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَما الجَوابُ عَنِ الإشكالِ عن هَذَا الحَدِيثِ؟ نَقُول: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ».

إذن: إِلَى الاصْفرارِ، وَقْتُ جَوازٍ، ومِنَ الاصْفِرارِ إِلَى الغُروبِ وقتُ ضرورةٍ.

مسألة: إِذَا تعارضَتْ شُرُوط الصَّلَاة فأيها نُقَدِّم؟

الجَوَاب: نقدِّمُ الوَقْت، مثل أن يَكُونَ الإِنْسَان في مكانٍ نَجِس، ويخاف أنْ يخرجَ الوَقْت قبل أنْ يخرجَ من المكَانِ، وعلى هذا فَقِسْ.

ولِهَذا يحافظُ عَلَى الوَقْتِ، وإن فاتَ بَعْضُ الشُّروطِ والْأَرْكَانِ، بدأَ بالوَقْتِ؛ لأنَّ الوَقْتَ أَهَمُّ شُروطِ الصَّلَاةِ، أَرأيتَ لو حضرَ وقتُ الصَّلَاةِ ولم يوجدْ ماءٌ، فَلا نَقُولُ انتظرْ حَتَّى تَجِدَ الـمَاءَ، بَلْ نَقُولُ: تيمَّمْ، فإنْ قال لا أَسْتَطِيعُ التَّيَمُّمَ لأني مريضٌ، نَقُولُ: صَلِّ.

فهُنا فاتَ شَرْطُ الطَّهَارَةِ مِنْ أجْلِ المُحافَظَةِ عَلَى الوَقْتِ.

مِثَالٌ آخَرُ: رجلٌ مريضٌ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُصلِّيَ قائمًا، لكنَّ هُناكَ أمَلًا أنْ يُشْفَى بعد يومٍ أو يومَيْن ويُصلِّيَ قائمًا، فَلا نَقُولُ له انتظرْ حَتَّى تُشْفَى وتصليَ قائمًا، بَلْ نَقُولُ: صَلِّ قَاعِدًا، فإنْ قال لا أَسْتَطِيعُ، نَقُولُ: صَلِّ عَلَى جَنْبٍ وأَوْمِئْ إيماءً، فإنْ قال لا أَسْتَطِيعُ، فهُنَا اختلفتِ الآراءُ:

فرأيٌ -وهو لِعَامِّيٍّ- قال: إنْ كنتَ لا تستطيعُ أنْ تُومِئَ برأسكَ فأَوْمِئْ بإِصْبَعِكَ؛ لأنَّهُ رأى أنْ الإصبعَ هيئتُه كهَيئةِ المصلِّي تمامًا، فمثلًا الرُّكُوعُ يَثني فيه إصبعَه عَلَى قَدْرِ الأُنْمُلَةِ الوسطى، والسُّجُودُ يَثني فيه إصبعَه مرةً ثانيةً أكثرَ.

ورأيٌ -لرجلٍ عنده عِلمُ عالمٍ- قال: أَوْمِئْ بِعَيْنِكَ، عند الْقِيَامِ افتحِ العَيْنَ، وعند الرُّكُوعِ أَغْمِضْ قليلًا، وعند السُّجُودِ أَغْمِضْ كثيرًا.

ورأيٌ -لرجلٍ آخرَ مِنَ العُلَمَاء- قال: إِذَا لم تستطعْ أنْ تُومِئَ برأسكَ فلا تُومِئْ بالعَيْنِ، بلْ أَوْمِئْ بقلبكَ، تُكَبِّرُ وتَقْرَأُ وتَرْكَعُ بالنِّيَّةِ، وهَكَذا بقيةُ الأَفْعَالِ تَنويها نِيَّةً.

فأمَّا رأيُ العَامِّيِّ، وهو الإيماءُ بالإصبعِ، فلا صِحَّةَ له؛ لأنَّهُ لَا دَلِيلَ علَيْه من القُرْآنِ والسُّنَّةِ ولا من أَقْوَالِ أهلِ الْعِلْمِ.

وأمَّا مَنْ قالَ يُومِئُ بالعَيْنِ، فاستدلَّ بحديثٍ وَرَدَ في ذَلِك لكنَّهُ ضَعِيفٌ.

بقيتْ حَركةُ القَلْبِ، وَهَذَا القَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

فهُنا فاتَ رُكْنُ القِيامِ منْ أجلِ المُحافَظَةِ عَلَى الوَقْتِ.

فبدأ المؤلِّفُ  بالمَواقِيتِ؛ لأنَّهَا أَهَمُّ شُرُوط الصَّلَاة، يُحافِظُ علَيْها حَتَّى إنْ سَقَطَ بَعْضُ الشُّروطِ أو بَعْضُ الْأَرْكَانِ، والوَقْتُ -وقت الصَّلَاة- مَذْكُورٌ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، ففي القُرْآن قَوْله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء:٧٨]، لِدُلُوكِ، اللَّام هنا بمَعْنَى مِنْ؛ أي مِنْ دُلُوكِ الشَّمْسِ، وقِيلَ اللَّامُ للتَّوقيتِ،

كقَوْله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق:١]، أي في وقتِ اسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ، فمَعْنَى دُلُوك الشَّمْسِ؛ أي في وقتِ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ والخلافُ في هذا لا يؤدي إِلَى الخلافِ في المَعْنَى، فدُلُوك الشَّمْسِ هو زَوَالُ الشَّمْسِ، وغَسَقُ اللَّيلِ هو ظُلمةِ اللَّيلِ، وأَعْلَى ظلمةٍ تَكُون عند مُنْتَصَفِ اللَّيلِ، إذنْ من نصفِ النَّهارِ إِلَى نصفِ اللَّيلِ كل هذا وقتٌ لِلصَّلَاةِ، لكنه مُقَسَّمٌ، فالظُّهرُ من الزَّوَالِ إِلَى أن يصيرَ كلُّ شَيْءٍ مثلَه، والعَصْرُ من هذا الوَقْتِ إِلَى اصفرارِ الشَّمْسِ، والضَّرورَةُ إِلَى غُرُوبِها، والمَغْرِبُ من غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى مَغيبِ الشَّفَقِ الأحمرِ، والْعِشَاءُ من مَغيبِ الشَّفَقِ الأحمرِ إِلَى نصفِ اللَّيلِ، هَذِهِ أَوْقاتٌ أَرْبَعةٌ متواصلةٌ، ما فيها فاصلٌ.

لو قال قَائِلٌ: العَصْرُ والمَغْرِبُ بينهما فاصلٌ؛ لأنَّ العَصْرَ إِلَى اصفرارِ الشَّمْسِ، فالجَوَابُ: لكنَّ الضَّرورَةَ إِلَى الغُرُوبِ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ».

ثم قال: فَصَلَ؛ لأن صَلَاةَ الْفَجْرِ لا يَتَّصِلُ وقتُها بما قبلَها ولا بما بعدَها، ولو كَانَ يَتَّصِلُ -والْعِلْمُ عند الله - لكانَ سِياقُ الآيةِ أن يُقالَ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى طُلوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تتصِلَ الأَوْقاتُ، لكن قال: إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ، ثم وَصَلَ وقال: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء:٧٨]، وهَذِهِ الدَّلالةُ في الآية هي مُقتضى حديثِ عبد الله بن عمرِو بن العاصِ السَّابِقِ ذِكْرُه، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «وَقْتُ الْعِشَاءِ إِلى نِصْفِ اللَّيْلِ».

ويَنبنِي عَلَى هذا مَسْأَلَةٌ مهمةٌ؛ لو طَهُرَتِ المَرْأَةُ من الحَيْضِ بعد مُنْتَصَفِ اللَّيلِ

وقبلَ الْفَجْرِ، فهل يجبُ علَيْها قضاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ؟ والجَوَابُ: لا؛ لأن وقتَ الْعِشَاءِ إِلَى نصفِ اللَّيلِ بصريحِ السُّنَّةِ وظَاهِرِ القُرْآن.

إذن الأَوْقاتُ خَمْسَةٌ؛ أَرْبَعةٌ متصِلٌ بَعْضُها البَعْضِ ووَاحِدٌ منفرِدٌ.

في هَذَا الحَدِيث يَسْأَل ابنُ مَسْعُودٍ عن أحَبِّ الأَعْمَال؛ مِن أجْل أن يفعل ما هو أحب، لا لمُجرَّد أنْ يَعْلم؛ لأن عِلْم الصَّحَابَة  جدٌّ لاقترانه بالْعَمَل، فيَسْأَلون عَنِ الشَّيْء مِن أجْل أنْ يفْعَلُوه -إنْ كَانَ مَطْلُوبًا-، أو يَسْأَلون عَنِ الشَّيْء مِن أجْل أن يدَعُوه إنْ كَانَ منهيًّا عنه، عَلَى عكْسِ ما علَيْه بَعْض النَّاس الْيَوْم يَسْأَلون عَنِ الشَّيْء ليَعْلَموا أمَطْلُوبٌ هو أَمْ لا، فإنْ كَانَ مَطْلُوبًا تراخَوْا، وإنْ كَانَ منهِيًّا تهاونوا.

فقال حِينَما سأل: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّ‍هِ؟»، المُراد أَعْمَال الجَوَارِح، ولا تَشْمَل أَعْمَال الْقَلْب كالتوكُّل، والخَوْف، والرَّجَـاء، بدَلِيل جَـوابِ الرَّسُـول أنه لـم يقل:

إيمان بالله، بل قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، ولم يَقُل: «الصَّلَاة في وقتها»، ولا «في أوَّل وَقْتِها»؛ ليَشْمَل أَفْضَلِيَّةَ التَّأخِير في صَلَوات أُخْرَى كصَلَاة الْعِشَاء، ولو قال الصَّلَاة في أوَّل وَقْتِها؛ لَلزِم أنْ تَكُون الصَّلَاة أوَّل الوَقْتِ أَفْضَلَ عَلَى كل حال، ولَيسَ كذَلِك.

وقَوْله: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» فيه إِشَارَة إِلَى أنَّ المُراد بذَلِك الصَّلَاة المَوْقُوتة؛ لأنَّ الصَّلوَات عندنا منها ما هو مَوْقُوت، ومنها ما هو مُطْلَق، ومنها ما هو مقيَّدٌ بسبَب.

المَوْقُوت مثل: الصَّلوَات الخَمْس، والوِتْر، وصَلَاة الضُّحى.

المُقَيد بِسَبَب، مثل: تحية المَسْجِد، وسُنة الوُضُوء، وصَلَاة الاسْتِخَارَة.

المُطْلَق، وهو ما لم يُقيَّد بِسَبَب ولم يُوَقَّت بوقت.

«قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟» التَّقدير: ثُم أيُّ العمَل أَحَبُّ؟ فحُذِفَ المُضَاف إِلَيْه، وحُذِف خبَر المبتدأ؛ للعلم به، وحَذْفُ المُضَاف إِلَيْه إِذَا كَانَ مَعْلُومًا أمْرٌ جائز، كما قال اللَّ‍هُ تعالى: ﴿لِلَّ‍هِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم:٤]، أيْ مِن قبل غلَبَتِهم ومِن بعدها؛ إذن، نَقُول حُذف منها المُضَاف إِلَيْه والخبَر؛ يعني: ثُم أيُّ العمَل أحب إِلَى الله؟

قال: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ»، البِرُّ: كَثرةُ الخَيْرِ، ومنه قَوْله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ﴾ [الطور:٢٨]، قالَ المفسرونَ: البَرُّ: كَثيرُ الخَيْرِ والإِحْسَانِ، فالبِرُّ هو كَثْرَةُ الإِحْسَانِ إِلى الوالدَيْن، والوَالِدانِ هما الأمُّ والأبُ.

أصلُ البِرِّ مأخوذٌ مِن السَّعَة والْكَثْرَة، ومنه البَرُّ أيْ خارج المُدُن؛ لسعته، والبِر هو كَثْرَة الخَيْر، فبِرُّ الوالدَيْنِ بكَثْرَة الإِحْسَان إِلَيْهما قولًا، وفِعْلًا، ومالًا، ونَفْسًا، وبكل شَيْء.

والمُرَاد بـ(الوَالِدَيْنِ) الأب والأم الأَدْنَيَيْن، فأمَّا الجَد والجَدَّة فلهما بِرٌّ لكِنَّه دون بِر الوالدَيْن الأقرَبَيْن.

وتأمَّلْ كيف قال: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ»، وبالأرحامِ يقال: صِلَةُ الأرحامِ؛ لأن حَقَّ الوَالِـديْن أَهَـمُّ، فكان الوَاجِبُ البِرَّ، وهـو أمـرٌ زائدٌ عَلَى الصلةِ: الأرحامُ صِلَةٌ، والْوَالِدَان بِرٌّ.

ولا يتقدَّمُ بِرُّ الوالدَيْن عَلَى حقِّ الرَّسول، ولا حقِّ النَّفس، فلو فَرضنا أن إِنْسَانًا لَيسَ معه إلَّا ماء قليل لنَفْسه ومعه أبوه مضطرٌ لشرب الـمَاء، وإِمَّا أنْ يشرب لِينجوَ بنَفْسِه ويموتَ أبُوه، أو يُشْرِبَه الأبَ فيَحْيا ويموتَ هُو؛ وحِينَئذٍ ليَبْدَأ بنفسه كما في حديث «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ».

«قُلْتُ ثُمَّ أَي؟»، نَقُول فيها كما قلنا في الأولى، قال: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ»، وهو القتال لتَكُون كَلِمَة الله هي العُليا.

والدَّلِيل: أنَّ النبِيَّ -صلَّى اللَّ‍هُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّ‍هِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ».

وكَلِمَة (الجِهَاد) بمَعْنَى بَذْلِ الجُهد والطَّاقة لإِدراك مَقْصُود.

فبيّنَ النَّبِيُّ ﷺ مرتبةَ الجِهَادِ بعد بِرِّ الوالديْنِ، وعلى هذا فيَكُونُ بِرُّ الوالِدَيْنِ مُقدَّمًا عَلَى الجِهَادِ في سَبِيلِ الله، ولكن يجبُ أنْ نعلمَ أنَّ بِرَّ الوالِدَيْنِ منه ما هو وَاجِبٌ، ومنه ما هو نَفْلٌ، فالوَاجِبُ أقلُّ ما يُطلَقُ علَيْه اسمُ البِرِّ، والنَّفْلُ ما زادَ عَلَى ذَلِك،

وإِن الجِهَادَ أيضًا منه وَاجِبٌ، ومنه تَطَوَّعٌ.

فالنَّفْلُ من بِرِّ الوالِدَيْنِ دون الوَاجِبِ من الجِهَادِ، أي أنَّ الوَاجِبَ من الجِهَادِ أَعْلَى من النَّفْلِ في بِرِّ الوالِدَيْنِ، والوَاجِبُ من بِرِّ الوالِدَيْنِ أَعْلَى من الوَاجِبِ في الجِهَادِ، والتَّطَوُّعُ في بِرِّ الوالِدَيْنِ أَعْلَى من التَّطَوُّعِ في الجِهَادِ.

فإِذَا قال قَائِل: متى يَكُونُ الجِهَادُ وَاجِبًا؟

فالجَوابُ عَلَى ذَلِك: يَكُونُ وَاجِبًا في أَرْبَع حالات:

الحَال الأُولَى: إِذَا حضرَ صَفَّ القِتَالِ؛ فإِن القتالَ يَكُونُ وَاجِبًا علَيْه، ولا يَجُوزُ له الانْصِرَافُ؛ لِقَوْلِ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّ‍هِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال:١٥-١٦].

الحَال الثَّانِية: إِذَا استنفرَهُ الْإِمَامُ، يعني: إِذَا أمرَ النَّاسَ بالنُّفورِ، وجبَ علَيْهم أن يَنفِرُوا؛ لِقَوْلِ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّ‍هُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التَّوْبَة:٣٨-٣٩].

الحَال الثَّالثة: إِذَا حَصَرَ العَدُوُّ بلدَه -بلد الإِنْسَان- وجبَ عَلَى جميعِ أهلِ البلادِ أن يَفُكُّوا الحصارَ عن أنفسِهم، وذَلِك بوُجُوبِ الدِّفاعِ عَنِ النَّفسِ؛ فإِن الدِّفاعَ عَنِ النَّفسِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِهِ تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥]، فمن لم يدافِعْ عن نفسِه، فقد ألقى بنفسِه إِلى التَّهْلُكَةِ، وذَلِك حرامٌ.

الحَال الرَّابِعة: إِذَا احتِيجَ إِلَيْه لِكَوْنِ اختصاصِه نادرًا لا يوجدُ مع غيره.

ولنفَرضْ أنه قائدُ طيارةٍ نفاثةٍ مثلًا ولا يوجدُ غيره، فحِينَئذٍ يتعينُ علَيْه الجِهَادُ.

فهَذِهِ أَرْبَعُ حالاتٍ يَكُون الجِهَادُ فيها وَاجِبًا.

وقول النَّبِيِّ ﷺ: «الجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّ‍هِ»، ويَكُونُ الجِهادُ في سَبِيل الله إِذَا كَانَ لإِعلاءِ كَلِمَةِ الله، لِقَوْلِهِ : «مَنْ قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّ‍هِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ».

وقال: «حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»، أيْ لو طلَبْت منه زيادة؛ لعَلَّمنِي وزادني، وإِنما فَهِم ابن مَسْعُودٍ هذا مِن حال النَّبيِّ -صلَّى اللَّ‍هُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- وأنه لم يتضَجَّر مِن الأسئلة الثَّلاثة الَّتي وُجِّهَتْ إِلَيْه، بل بقِيَ مُنشرِح الصَّدر، وَهَذَا يدُلّ عَلَى أنه لو اسْتزَادَه لزادَهُ.

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: حِرْص الصَّحَابَة  عَلَى العِلْم.

وجهه: قول ابن مَسْعُودٍ «سَألْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّ‍هِ؟»، وهَكَذا كُلَّما جاءنا مثل هذا التَّركيب فإِنَّه يدُلّ عَلَى حرص الصَّحَابَة عَلَى الْعِلْم.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: إِثْبات المَحبَّة لله ؛ لِقَوْلِهِ: «أَحَبُّ إِلَى اللَّ‍هِ»، ولمْ ينكرِ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عبدِ الله بنِ مسعودٍ ذَلِك، بل أقَرَّهُ، فالله  يحبُّ، ومَحبةُ الله تعالى تتعلقُ إما بالشَّخصِ، وإما بالْعَمَلِ، وإما بالزَّمانِ، وإما بالمكانِ.

فَمَحبةُ الله المتعلِّقةُ بالشَّخص، أنه تعالى يحبُّ المُؤمِنينََ، ويحبُّ المقسطينَ.

والمَحبَّةُ المتعلِّقةُ بالشَّخْص قد تَكُون في شَخْصٍ بعينهِ، وقد تَكُون في شَخْصٍ بوصفه.

تَكُونُ لشَخْصِ بعينِه، مثل قول النَّبِيّ ﷺ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّ‍هَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّ‍هُ وَرَسُولُهُ«، فأعطاها عليَّ بنَ أبي طالبٍ، هذا بعينه.ومثل قَوْله  حين سُئِلَ: مَنْ أَحَبُّ الرِّجَالِ إلَيْكَ؟ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ«.والَّذِي يحبُّه الرَّسولُ  يحبُّه اللَّ‍هُ.والمَحبَّةُ المتعلقةُ بالْعَمَل: مثْلَ حَدِيث: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّ‍هِ؟».

والمَحبَّةُ المتعلقةُ بالزَّمنِ، مثل قَوْله ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّ‍هِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ» -يعني: عشرَ ذي الحِجَّةِ- قَالوا: ولا الجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّ‍هِ؟ قال: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

والمَحبَّةُ المتعلقةُ بالمكانِ، مثل: «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّ‍هِ مَسَاجِدُهَا«.وأهل السُّنة والجَمَاعَةِ يُثبِتُونَ لله مَحبَّةً حقيقيةً، ويَقولُون: إن الله يُحِبُّ ويُحَبُّ، وأدلتهم موجودة في القُرْآن والسُّنة، فهما مملوءَانِ بإِثْباتِ مَحَبَّةِ اللَّ‍هِ .وذهبَ بَعْض العُلَمَاء مذهبًا لَيسَ بصَوَابٍ، فقال: إنَّ اللَّ‍هَ لا يُوصَفُ بالمَحبَّةِ، فلا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، والمَحبَّةُ التي وصفَ اللَّ‍هُ بها نفسَه -على زعمهم- هي الإِحْسَانُ،أو إِرادَةُ الإِحْسَانِ! ولكنَّ الصَّوابَ أنَّ المَحبَّةَ ثابتةٌ لله كما أثبتها الله لنَفْسهِ.• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ محبَّة الله تتفاضَل، فَيُحِب شيئًا أكثر مِن شَيْء، وتُؤخَذ مِن قَوْله: «أحَبُّ»؛ لأنَّها اسْم تفضيل يَقْتَضي أنَّ الله يحب شيئًا أكثر مِن شَيْء، وَهَذَا ثابت في أكثرَ مِن نَصٍّ، ومنه قَوْله  في الحَدِيث القُدُسِي: «وَمَا تقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ علَيْهِ»، يعني: الفَرائِضُ أحبُّ إِلَى الله من النَّوافِلِ؛ لأنَّ الفَرائِضَ أَهَمُّ، والْقِيَامُ بها أكثرُ أجرًا.

• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ محبَّة الله تتَعلَّق بالعمَل كما تتَعلَّق بالعَامِل، فكما أنَّ الله يحب المحسنين، ويُحِبُّ المتَّقِين، ويحب الصَّابرين، كذَلِك يحب الأَعْمَال، وتُؤخَذ مِن: «أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّ‍هِ».

وقد اختلفَت بَعْض الطَّوائف مع أهل السُّنة في إِثْبات المَحبَّة لله .

• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: فَضِيلَة الصَّلَاة عَلَى وقْتِها، وأنها أفضلُ مِن كل الأَعْمَال.

وجهه: أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ قال: «أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ؟»، فقال رَسُول الله ﷺ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»؛ إذن الصَّلَاة عَلَى وقْتِها أحَبُّ إِلَى الله مِن بِر الوالدَيْن، والجِهَاد في سَبِيل الله، والحج والعُمْرَة.

لكن هل المُرادُ فَضيلتُها عَلَى أولِّ الوَقْتِ، أم فضيلتُها عَلَى الوَقْت المَشْرُوعِ والأكملِ؟ عَلَى وقْتِها المَطْلُوبِ شرعًا، وإلا لقال: الصَّلَاةُ في أوَّل وَقْتِها، وذَلِك أنَّ الصَّلوَات منها ما يُسَنُّ تقديمُه، ومنها يُسَنُّ تَأْخِيرُه.

فصَلَاةُ الْعِشَاءِ مثلًا يُسَنُّ تَأْخِيرُها إِلَى ثُلُثِ اللَّيلِ، ولِـهَذا لو كانتِ امَرْأَةٌ في الْبَيْتِ، وقالتْ: أيُّهما أفضلُ لي أن أصليَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ من حين أَذَانِ الْعِشَاءِ، أم أن أُؤَخِّرَها إِلَى نصفِ اللَّيل؟ قلنا:

الْأَفْضَلُ أن تُؤَخريها إِلَى ثلثِ اللَّيل؛ لأنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَأَخَّرَ ذاتَ ليلة، حَتَّى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّ‍هِ، رَقَدَ النِّسَاءُ والصِّبْيَانُ، فخرجَ وصلّى بهم، وقال: «إنَّ هَذَا لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي«.إذن فالْأَفْضَلُ للمَرْأَة إِذَا كانتْ في بيتها أنْ تُؤَخِّرَ.وكذَلِك لو فُرِضَ أنَّ رِجالًا محصورين -يعني مُحدَّدين مُعيَّنينَ في سَفَرٍ- فقَالُوا: نُؤَخِّرُ الصَّلَاة، أم نُقَدِّمُ؟ نَقُول: الْأَفْضَلُ أن تؤخِّرُوا.كذَلِك جَماعَةٌ خرجوا في نُزهةٍ، وحانَ وقتُ الْعِشَاء، فهل الْأَفْضَلُ أن يُقدِّموا الْعِشَاء، أم يُؤخِّروها؟نَقُول: الْأَفْضَل أن يُؤخِّروها، إلا إِذَا كَانَ في ذَلِك مَشَقةٌ.وبقيةُ الصَّلوَاتِ الْأَفْضَلُ فيها التقديمُ، إلا لسَببٍ، فالْفَجْرُ تُقَدَّمُ، وكذَلِك الظُّهرُ، والعَصْرُ، والمَغْرِبُ، إلا إِذَا كَانَ هُناكَ سببٌ، فمن الأَسْباب: إِذَا اشتدَ الحَرُّ؛ فالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الظُّهرِ إِلَى أن يَبُردَ الوَقْتُ، يعني: إِلَى قُرب صَلَاة العَصْرِ؛ لأنَّهُ لا يَبْرُدُ الوَقْتُ إلا إِذَا قَرُبَ وقتُ العَصْرِ، فإِذَا اشتدَ الحَرُّ، فإن الْأَفْضَلَ الإِبْرَادُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»، وكان ﷺ في سفرٍ، فقامَ بلالٌ ليؤذِّنَ، فقال: «أَبْرِدْ»، ثم قام ليؤذِّنَ، فقال: «أَبْرِدْ»، ثم قام ليؤذّن، فأذِنَ له.

ولكن متى؟ حين سَاوَى الظِّلُّ فَيْئَهُ، يعني:

حِينَما كَانَ ظِلُّ الشَّيء كطولِه تقريبًا، يعني: حول العَصْرِ، وَهَذَا هو الإِبْرَاد المشْرُوط؛ ليخرجَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ في راحةٍ.

ومن الأَسْبابِ أيضًا: أن يَكُونَ في آخرِ الوَقْتِ جَماعَةٌ لا تَحْصُلُ في أولِّ الوَقْتِ، فهنا التَّأخِيرُ أفضلُ، كرجلٍ أدركَه الوَقْتُ وهو في البَرِّ، وهو يعلم أنه سيصلُ إِلَى البلدِ ويدركُ الجَمَاعَةَ في آخرِ الوَقْتِ، فالْأَفْضَلُ أن يُؤخِّرَ حَتَّى يدركَ الجَمَاعَةَ، بل قد نَقُولُ بوُجُوبِ التَّأخِيرِ هنا؛ تحصيلًا للجَماعَة.

• الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: اسْتِحْبَاب تحَرِّي الصَّلَاة عَلَى وقْتِها.

وجهه: أنَّ ذَلِك أحَبُّ إِلَى الله، وقد قلنا إنه لم يقل الصَّلَاة في أوَّل وَقْتِها، بل قال «عَلَى وَقْتِهَا»؛ لِيَشْمَلَ تَأْخِير الصَّلَاة كالْعِشَاء.

• الفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ بِرَّ الوالدَيْن مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ، وهو مُقدَّمٌ عَلَى جميعِ الحقوق؛ لأنَّ الرَّسول ﷺ جعل أَحَبَّ الأَعْمَال الصَّلَاة عَلَى وقْتِها، ثم بِر الوالدَيْن، ولا شَكَّ أنَّ بِرَّ الوالِدَيْنِ من أعظمِ حقوقِ الإِنْسَانِ عَلَى الإِنْسَانِ.

• الفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: فَضِيلَة بِرِّ الوالِدَيْن، حيثُ كَانَ يَلِي الصَّلَاة عَلَى وقْتِها، وَهَذَا يدُلّ عَلَى فضيلته، وأنه مِن أفضل الأَعْمَال.

والنَّاسُ بالنِّسبة للوالديْنِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ بَارٌّ، وقِسْمٌ بَائِرٌ، وقِسْمٌ بَيْنَ هذا وَهَذَا، فالقِسْمُ البَارُّ: هو المحسنُ، والبائِرُ: هو العَاقُّ، وما بينهما لا هذا ولا هذا.

فالبَارُّ هو مَنْ قام بوَاجِبِه تجاه والدَيْه، والبائرُ آثمٌ، وإثمُه أعظمُ وأكبرُ من الَّذي بين هذا وَهَذَا: لا بارٌّ ولا بائرٌ.

والوَاجِبُ عَلَى الإِنْسَان أن يَبَرَّ وَالِدَيْهِ؛ لأنَّ مَنْ مات ولمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ وقد أدركهما، فإنَّ جبريلَ دعا علَيْه بأنْ يُرْغَمَ أَنْفُهُ، وأَمّنَ عَلَى ذَلِك النَّبيُّ ﷺ فقال:

«رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ«.فما ظنُّكم -أيها الإخوةُ- بدُعَاءٍ صادرٍ من جبريلَ يُؤَمِّنُ علَيْه مُحمَّدٌ ﷺ إنه لَحَرِيٌّ بالقَبُولِ!! ولِهَذا تجدُ أهلَ العُقوق دائمًا في حَسْرَةٍ، وفي ضِيقٍ، وفي وَسَاوِسَ، ورُبَّما يُضَيَّقُ رزقُهم؛ بِسَبَبِ عُقوقهم، وعدم الْقِيَام ببِرِّ الوالِدَيْنِ.• الفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: فَضِيلَة الجِهَاد في سَبِيل الله؛ لِقَوْلِهِ: «الجِهَاد فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ»، والجِهَادُ في سَبِيلِ الله ذُرْوَةُ سَنَام الإِسْلام، كما قال النَّبِيّ ﷺ: «ذُرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ».

وما أكثرَ الآيَاتِ التي فيها الأَمْرُ بالجِهَادِ، والحثُّ علَيْه، والتَّرغيبُ فيه، وبيانُ فضلِهِ.

• الفَائِدَةُ العَاشِرَةُ: بِرُّ الوالدَيْن مُقدَّم عَلَى الجِهَاد في سَبِيل الله.

أما عَلَى التَّفصيل فنقول:

إنْ كَانَ بِر الوالدَيْن فيه وَاجِب؛ فهو مقدَّم حَتَّى عَلَى الجِهَاد الوَاجِب، وإنْ كَانَ في المُسْتَحَبِّ فهو مقدَّم عَلَى الجِهَاد المُسْتَحَبِّ، أمَّا إِذَا كَانَ الجِهَاد وَاجِبًا والبِرُّ مُسْتَحَبًّا بحيثُ يَكُون الْوَالِدَان غير محتاجَيْن إليك ولهما مَن يقوم بكفايتهما؛ فَهُنا يُقَدَّم الجِهَاد حَتَّى لو منعاك منه؛ فلا تُطِعْهما، أمَّا إنْ كانا مضطرَّيْن إليك فهنا يُقدَّم الْوَالِدَان.

وإِذَا منَع الْوَالِدَان مِن الجِهَاد غير الوَاجِب؛ فلا طاعةَ لمخْلُوقٍ في مَعْصِيَة الخالق، لكن غير الوَاجِب؛ فلهما طاعة إلَّا إِذَا علِمْنا أنَّهُما منَعَا كراهةً للجِهَاد، لأنَّهُ قد

يَكُون بَعْض الآباء خبيثٌ لا يحب أن يجاهدَ المُسْلِمون، ولا يحب أن يعلوَ الإِسْلامُ، فيمنع ولده مِن الجِهَاد لا شَفَقةً علَيْه وخَوْفًا، لكـن كَراهَـةً لِـمَا يقُـوم بـه بحيثُ لـو استَأْذَنه أن يُجاهِدَ منعَهُ، ومِن جِهَةٍ أُخْرَى يسمح له بالسَّفر إِلَى أوروبا ليشربَ الخمر أو يزنيَ، ويتَرفَّهَ، بل ويُعْطِيه أموالًا لإقامَتِه وطَعَامِه وشَرابِه؛ فيُدلُّ هَذا عَلَى خبث طوِيَّةٍ، وعلى أنَّه يَكْرَه أنْ تقومَ للإِسْلامِ قائِمَةٌ، وحِينَئذٍ نجعل قَوْله تحت النِّعَال، ونقول بذهاب الولَد للجِهاد ولا يبالي؛ لأن أباه أَصْبَح يحتاج إِلَى مجاهدة، إذْ إنَّ في قلبه غِلًّا وحِقدًا عَلَى الإِسْلام -والعياذُ بالله-.

أما لو منعَك أبُوكَ أو أمُّك مِن تعَلُّم العِلْم فلَا طاعةَ أبدًا إلَّا إِذَا كَانَ هُناكَ ضرورة للبقاء معهما مثل أنْ يَكُونا مَرِيضَيْن ولَيسَ عنْدَهُما مَن يقوم علَيْهما غيرُك فَهَذَا شَيْء آخَر، لكِن بِدُون الضَّرورَة لا طاعةَ لـهما.

ولو مَنعَاك مِن مرافقة صُحبةٍ طيبة صَالِحَة إلَى مَن عندهم عودٌ ومِزْمَار ودِش؛ فلا طاعة أبدًا لأنَّنا عرفنا أن هذا ضِدُّ صَلاح الرُّجل لابنه، مع أنَّ صَلاحَ الابْنِ فَائِدَة للإِنْسَان في حياته وبعد موته؛ لأنَّ الْعَمَلَ لا ينقطعُ إِذَا كَانَ للعبد ولدٌ صَالِحٌ يدْعُو له.

• الفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: العَمَل بالقَرَائِن؛ لأنَّ ابْن مَسْعُودٍ لا يعلمُ الغَيْبَ، ولا يعلمُ ما في صدر النَّبيِّ ﷺ، والعَمَل بالقَرَائِن حُجة.

ودَلِيل ذَلِك مِن القُرْآن: أنه لمَّا اتَّهَمت امَرْأَةُ العزيز يوسُفَ بأنه أَرَادها قال الحاكم بينهما: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾ [يوسف:٢٦-٢٨]،

فَهَذَا عملٌ بالقرينة؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ القميص قُدَّ مِن قُبُل فهو لاحِقها وهِي تُرِيد التَّخلُّصَ منه، وإنْ كَانَ مِن دُبر فهو هاربٌ منها وهي لحِقَتْه تجُرُّه حَتَّى انقدَّ القميص، فلمَّا رأَى القَمِيصَ قُدَّ مِن دُبُر؛ عرَفَ أنها هي الَّتي راودته وأنه صادق في قَوْلِه: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف:٢٦].

وأمَّا الدَّليل مِن السُّنة: فقد حدَّثَنا رَسُول الله ﷺ أنَّ امرأتَيْن خرجَتا في البَرِّ تنتجعان، وكان لكل وَاحِدَة منهما وَلدٌ، فعَدا الذِّئب عَلَى ولد الكَبِيرَة فأكله، فلمَّا رجعَتا ادَّعَت الكَبِيرَة أنَّ الولد الباقي هو ولدها، وهو في الحقيقة ولد الصَّغيرة، فاختصمتا إِلَى داود ، فرأى داود باجتهاد أن يَحْكُمَ بأنَّ الولدَ للكَبِيرَة، وقال إنَّ الصَّغيرة شابة وتَستطِيعُ أن تأتيَ بولدٍ بعده؛ فحكم به للكَبِيرَة، ثم خرجتا من عنده، والظَّاهر -والله أعلم- أنَّ الصَّغِيرة لم تقتنع، فاحتكمَتا إِلَى سُلْيمان بْنِ دَاودَ؛ ففهَّمه الله ، وكُلًّا آتاه الله حُكْمًا وعِلْمًا، وفهَّمَ الله سُلَيمانَ، فجعل الولدَ بينهما وأمر بالسِّكين ليشُقَّه نِصْفَيْن، أمَّا الكَبِيرَة فرَحَّبَت لأنَّهُ لَيسَ بولدها، وأمَّا الصَّغيرة فقالت: يا نَبِيَّ اللَّ‍هِ هُوَ لَـهَا، فتنازلَتْ عن حقِّها فِداءً لابنها؛ لأنَّهَا لا تريدُ أنْ يموتَ، وكونه حيًّا عند الكَبِيرَة أحَبُّ مِن أن يَمُوتَ، فقضَى به للصَّغيرة؛ فهَذِهِ هي قرينة أنها أدركَتْها الشَّفقة أن تُحْرَمَ منه ويبقى حيًّا؛ فدل ذَلِك عَلَى أنها أمه.

والدَّليل مِن السُّنة الْفِعْلية: لـمَّا فتح النَّبيُّ ﷺ خَيْبَر دعَا بمال حُيَيِّ بن أخْطَبَ رَئِيس بني النَّضير، فَقالَ لَه سعية عمُّ حُيَيِّ: يا رَسُول الله، أو قال يا مُحمَّد، أذهبته الحروبُ هو غني ما فيه شك والْيَهُود معْرُوفونَ بجَمْع المالِ، قال أفنته الحروب ما له مالٌ، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّ‍هُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم-: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالمَالُ كَثِيرٌ»، والعهد قريب يقصد أنه أمْس رحَلُوا من المدينة والمال كثيرٌ لا يذهبُ.

«وَلَكِنْ خُذْ يَا زُبَيْرُ هَذَا الرَّجُلَ فَاضْرِبْهُ لَأَنْ يُقِرَّ»، فأخذَه الزُّبير وضَربَه، فلما أحسَّ بالضَّرب قال: اصْبِرْ أَدُلُّكُمْ عَلَى خَرِبَةٍ كَانَ حُيَيٌّ يَطُوفُ حَوْلَـهَا، فَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى خَرِبَةٍ وَوَجَدَ المَالَ مَدْفُونًا بِهَا وَإذَا هُوَ مَسْكَةُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ دَنَانِيرَ، وَمَسْكَةُ ثَوْرٍ، أَيْ جِلْدُ الثَّوْرِ مَمْلُوءٌ ذَهَبًا.

هنا عمل النَّبيُّ ﷺ بالقَرَائِن فَقال: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالمَالُ كَثِيرٌ»، يعني مُدَّة قليلة لا يَفْنى بها المالُ، ولِهَذا سوَّغ  أنْ يُضْرَب هذا الرَّجُل حَتَّى يقر.

إذن، فالعَمَل بالقَرَائِن ثابت شرعًا.

فإن قال قَائِل: إنَّ ابن مَسْعُودٍ  قد ينتقده منتقد، حيثُ قال: «ولَو اسْتزَدْتُه لزَادَنِي»، فلماذا لم يَسْتَزِدْه؟ ألَيْسَت السَّعَة في الْعِلْم مَطْلُوبة؟

فنقول: إنَّ ابن مَسْعُودٍ  أفاد بأنَّ الأَعْمَال لا تقتصر عَلَى هَذِهِ الثَّلاثة في ترتيب المحبَّة، وأنه لو استزاد النَّبيَّ ﷺ لزاده، لكن كرِهَ إضْجَار الرَّسول ، ولعله رآه ذا شغل، أو أنَّ الوَقْت غير مُنَاسِب، أو مَا أَشْبَه ذَلِك؛ فلا بُدَّ أن يَكُون لابن مَسْعُودٍ  عذرٌ في عدم الاستزادة؛ لأَنَّنا نعلم مِن حَال عبْدِ اللَّ‍هِ بن مَسْعُودٍ أنه مِن أحرص النَّاس عَلَى الْعِلْم، واللَّ‍هُ أعْلَم.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةَ عَشْرَةَ: أنَّ الأَعْمَالَ تتفاضلُ، ويُؤْخَذُ هذا من قَوْله: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ»، وأَحَبُّ: اسمْ تفضيلٍ يدلُّ عَلَى أنَّ الأَعْمَالَ تتفاضَلُ في مَحبَّةِ الله، وكُلَّما كَانَ الْعَمَلُ أَحَبَّ إِلَى الله كَانَ أفضلَ، وقد ثبتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الحَدِيث القُدُسِي أنَّ الله قال: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»، يعني: الفَرائِضُ أَحَبُّ إِلَى الله مِنَ النَّوَافِلِ؛ لأنَّ الفَرائِضَ أَهَمُّ والقِيام بها أكْثَرُ أجْرًا.

----------------------------

أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم (٦١٢).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصَّلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، رقم (٥٥٤)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب من أدرك ركعة من الصَّلاة فقد أدرك تلك الصَّلاة، رقم (٦٠٨).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، رقم (٥٨٠)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، رقم (٦٠٧).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصَّلاة، باب فضل الصَّلاة لوقتها، رقم (٥٠٤)، ومسلم: كتاب الإِيمَان، باب بيان كون الإِيمَان بالله تعالى أفضل الأَعْمَال، رقم (٨٥).

أخرجه مسلم: كتاب الزَّكَاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم (٩٩٧).

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، رقم (٢٦٥٥)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، رقم (١٩٠٤).

أخرجه ومسلم: كتاب فضائل الصَّحابَة، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، رقم (٢٤٠٤).

أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصَّحابَة، باب قول النبي ﷺ: «لو كنت متخذًا خليلا»، رقم (٣٤٦٢)، ومسلم: كتاب فضائل الصَّحابَة، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، رقم (٢٣٨٤).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصَّلاة، باب فضل الصَّلاة لوقتها، رقم (٥٠٤).

أخرجه أحمد (١ / ٣٤٦ رقم ٣٢٢٨).

أخرجه أبو يعلى (٨/ ٢٧٩ رقم ٤٨٦٥).

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (٦١٣٧).

أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، رقم (٦٣٨).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٥١١)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٦١٥).

أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٥١١)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٦١٦).

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (١ / ٢٢٥ رقم ٦٤٦).

أخرجه أحمد (٥ / ٢٣١ رقم ٢٢٠٦٩).

أخرجه مسلم: كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم (١٦٣١).

أخرجه أحمد (٢ / ٣٤٠ رقم ٨٤٦١).

أخرجه ابن حبان (١١ / ٦٠٧ رقم ٥١٩٩).

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (٦١٣٧)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:50

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)