■ الحديث: عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: حدثنا كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ - وهي الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى - حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ، الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنِ صَلاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فيها بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
_____________________________________
هَذَا الحَدِيثُ يفيدُ ما يفيدُه حديثُ جَابِرٍ السَّابِقُ في كَيفِيَّةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ من حيثُ التَّوقِيت.
قَوْله: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ»، وأبو بَرْزَة صحابيٌّ معروف، «فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ؟»، لو نظَرْنا إِلَى ظَاهِر الاسْتفهام؛ لوجدناه عن كَيفِيَّة الصَّلَاة وصفتها، لكن أبا بَرْزَة فَهِم مِن السَّائل أنه يريد زمان أدائها، بدَلِيل الجَوَاب حيثُ قال: «كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ -الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى- حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ»، وسُمِّيَت الهَجِير لأنَّهَا تقع في الهاجِرة، وهي شدة الحر، ويريد بها الظُّهر، وسميت الأولَى؛ لأنَّ جبريل أَمَّ النَّبيَّ ﷺ بها أوَّلًا، وقَوْله: «حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ»؛ أي تزول، «وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى المَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ»، وَهَذَا يَدُلُّ علَى أنه كَانَ يُبادِر بها ويُصلِّيها والشَّمْس حيَّة، وقَوْله: «إِلَى رَحْلِه» أيْ إِلَى بيته، وقَوْله: «والشَّمْسُ حَيَّة» أيْ لَمْ تَصْفَر، والجملة حالية في موضع نصب.
ثم قال أبو المِنهال: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ»، لكن عندنا ما يكفينا وهو حديث جَابِر، حيثُ قال: «وَالمَغْرِب إِذَا وَجبَتْ».
قَوْله: «وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ» الضَّمير يعود عَلَى النَّبيِّ، كَانَ يستحب تَأْخِير العِشَاء، حَتَّى قالَ ذاتَ لَيْلَةٍ، وقد خرَج حين مضَى عامَّة اللَّيل: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتِي»، وقَوْله: «الَّتِي تَدْعُونَها العَتَمَة»، أي تُسمُّونها، وَهَذَا يَحْتَمِل أن يَكُون إقرارًا، أو إنكارًا، «وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا»، هل نَقُول إنَّها كراهَةٌ شرعيَّةٌ، وهِي في عُرف المتقدِّمِينَ تفيد التَّحريمِ، أو كرَاهةٌ طبيعيَّة جِبِلِّيَّة؟ يَحْتَمِل المَعْنيَيْن.
ولو كَانَتْ طبيعية؛ فلِئَلَّا يتأخَّر عن صَلَاة الْفَجْر، أو يقوم وهو كسلان يريد النَّوم.
ونظير ذَلِك: قول النَّبيِّ ﷺ للرَّجُل الَّذي سلَّم علَيْه فلم يَرُد علَيْه السَّلام حَتَّى تيَمَّم ثُم قال: «إِنِّي كَرِهْتُ أنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ»، والمُرَاد هنا الكراهة الطَّبيعيَّة؛ لحَدِيثِ عَائِشَة : «كَانَ النَّبيُّ ﷺ يذكر الله عَلَى كل أحْيَانِه»، ولأَنَّنا لا نعلم أحدًا قال بكراهة ذكر الله إلَّا عَلَى طهارة، إلَّا كَراهَة طبيعيَّة كالحُبِّ والكُرْه للإِنْسَان، لا التَّحريم.
إذن، حُكْم الكراهة يَكُون بحسب السِّياق.
«وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالحَدِيثُ بَعْدَهَا» أيْ بعد العِشَاء، يكرهُ أنْ ينامَ قبلَها، يعني: بين المَغْرِبِ والْعِشَاء، وذَلِك لأنَّ النَّوم قبلها يُفَوِّتُ المتحدِّثَ صَلَاةَ اللَّيلِ، يؤدِّي إِلَى وَاحِدٍ مِن أمرين: إمَّا أنْ يستغرق في النَّوم فلا يقوم إلَّا للفَجْر، وإمَّا أنْ يقومَ ونصفه نوم مع التَّعب والكسل؛ لأنَ بدنَه لم يأخذْ طاقتَه من النَّوْمِ، فيؤدي الصَّلَاة عَلَى وجه غير مرضي.
أما الحَدِيث بعدها فإنَّما كُرِه؛ لأنَّ الإِنْسَان إِذَا تحدَّث بعد العِشَاء وطال به الحَدِيث؛ تأخر في النَّوم وَهَذَا يعود بضرر عَلَى البدن ولو عَلَى المدى الطَّويل، ويُؤدِّي إِلَى ترك قيام اللَّيل؛ لأنَّ الإِنْسَان إِذَا نام متأخرًا فسيَكُون لُبُّ نَوْمِه في وقت التَّهَجُّد، ورُبَّما تأخَّر استيقاظه إِلَى ما بعد طُلُوع الْفَجْر، أو إِلَى ما بعد طُلُوع الشَّمْس.
وإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يكرهُ الحَدِيث بعدها، أي: بعد الْعِشَاء، حَتَّى إن كَانَ الحَدِيثُ نافعًا فإِنَّه يكرهُه، فما بالك فيما إِذَا كَانَ الحَدِيثُ ضارًّا، كما يوجدُ من بَعْض النَّاس الَّذِين يتعلَّلونَ بعد صَلَاة الْعِشَاء، فيَجْلِس بَعْضُهم إِلَى بَعْض، فتعمرُ
أَوْقاتُهم بالغِيبَةِ، وسَبِّ النَّاسِ، والكَلَامِ المحرَّمِ، والفِعلِ المحرَّمِ، نَقُول: هذا تَكُونُ كراهةُ النَّبِيِّ ﷺ له أعظمُ وأعظمُ، وأنت ترى أنَّ الَّذِين ابتُلوا بِهَذَا الأَمْرِ -أي: بالسَّهَرِ بعد صَلَاة الْعِشَاء- تجد أن صَلَاتَهم الْفَجْرَ مع الجَمَاعَةِ قليلةٌ، وتجد أن أجسَامَهم منحطةٌ ضَعِيفةٌ؛ لأن نومَ اللَّيلِ لا يَسدُّ مَسَدَّهُ نومُ النَّهار.
ويُستثنى مِن هَذَا الحَدِيث ما كَانَ السَّهر فيه لمَصْلَحَة، كطلب الْعِلْم، فقد كَانَ أبو هريرة لَا يَنام من اللَّيل إلَّا مُتأخِّرًا ليتحَفَّظ أحاديث الرَّسول ﷺ، كذَلِك الحَدِيث مع الأهل لقصد التَّأليف، فقد جاءت صفِيَّة إِلَى رَسُول الله ﷺ وهو مُعتكِف في المَسْجد وبقيت معه بعد صَلَاة العِشَاء إِلَى ما شاء الله، كذَلِك مع الضَّيف فيَجْلِس ويتحَدَّث معه، ويُعْطِيه ضِيَافته مِن عَشاء أو قهوة أو مَا أَشْبَه ذَلِك؛ لأن هَذِهِ مَصْلَحَة شرعيَّة في التَّأليف، وإكرام الضَّيف مَطْلُوب ووَاجِب.
«وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ»، وَهَذَا يدُلّ عَلَى أنه كَانَ يبكر بها، والإِنْسَان يعرف جليسه إِذَا ارتفع النَّهار بضوء الْفَجْر؛ لأنَّهُ في ذَلِك الوَقْت لَيسَ هُناكَ كهرباء، ولا سُرُج، «وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى المِئَةِ»، وَهَذَا يدلُّ علَى أنه كَانَ يبتدئ بها مبكِّرًا؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ ينفتل حين يعرف الرجل جليسه وهو يقرأ بالستين إِلَى المِئَة، والعَادَة أنَّ قِراءَتَه كَانَتْ مرتَّلَة يقِفُ عنْدَ كُلَّ آيَةٍ، لكن التَّبْكِير في الوَاقِع تبكير نِسْبِي، بدَلِيل أنه كَانَ يُصلِّي النَّافلة -راتبة الْفَجْر- ثُم يضطجع حَتَّى يَأْتِيه المُؤَذِّن.
مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:
• الفَائِدَةُ الأُولَى: حِرْص السَّلف الصَّالح عَلَى الْعِلْم والتَّسَاؤل عنه؛ لأنَّ سَيَّار بن سَلامَة سأل أبا بَرْزَة عن كَيفِيَّة صَلَاة النَّبيِّ .
مَسْأَلَة:
كَانَ السَّلف يَسْأَلون لِلْعِلم والْعَمَل، وَهَذَا عكس حال كثير من النَّاس الْيَوْم يَسْأَلون لِلْعِلم لكِن لا تَجِدُ أحدًا يعمل -إلَّا قليلًا- فتجد البَعْض يَسْأَل العالِم عن كذا وكذا، فإنْ وافق هَواه فعلَى العين والرَّأْس، وإنْ لَم يُوافِقْ هَوَاهُ قَال: هَذا مَا عِنْدَه عِلْمٌ! ويَبْحَثُ عَن غَيْرِه ليَسْأَله، ويظل يَسْأَل ويَسْأَل حَتَّى يَصِل إِلَى مَن يقول له ما يُوافِق هَواه، وحِينَئذٍ يقول هذا هو الحق! فهَل هَذا يطْلُبُ الحَقَّ؟
! بالطَّبْع لا يَطْلُب الحَقَّ.
وكان الصَّحَابَة إِذَا تعلَّمُوا عشَرَ آيَاتٍ علَّمُوها ثُمَّ عمِلُوا بها، فواللَّهِ لو أنَّنا طبَّقْنا هذا في أنفسنا وأهْلِنا وجِيرَاننا وبَنِي قوْمِنا؛ لوَجَدْنا الأَمْر عَلَى غير هذا الحال، وكثير مِن العامَّة الَّذِين لَيسَ عندهم دين ولا ورَع إِذَا سَألوا عن شَيْءٍ وقيل لـهم هذا حرام؛ صار يتشكَّك، مع أنه أتى إِلَى هذا العالِم وهو يُوقِن أنَّ الحقَّ عنْدَه، أو يغلب عَلَى ظنه، ثُم إِذَا أفتاه بما لَا يريد؛ صار هذا العالم -بإذن الله وقدَره- جاهِلًا لا يُوثَق بعِلْمِه، فيطلب عالمًا آخر، وهَكَذا.
وقد قال أهل الْعِلْم بحُرمة هذا؛ لأنَّهُ مِن تَتبُّع الرُّخَص، ولأنَّهُ جعل الدِّين تبعًا لهواه؛ ولِهَذا قَالُوا كما في (باب الفتوى والقضاء) إِذَا سأل الإِنْسَان عالمًا ملتزمًا بِقَوْلِه -أيْ واثقًا بصحته- فحَرام علَيْه أنْ يَسْأَل غيره نفس المَسْأَلَة؛ لأنَّهُ يصير مُتَّبِعًا لهواه، وَهَذَا غير مَن يَسْأَل ليناقش ويفهم الأَدِلَّة.
لكِنْ هَل يَجِبُ عَلَيْك فورًا اتباع الثَّانِي، أو يجب أن تذهب إلَى الَّذي أفتاك أولًا، وتقول سمعت قولًا آخر خِلَاف قولك، ويستدل بكذا وكذا؟
نقول: الأوْرَع والْأَفْضَل هو الرُّجوع للعالِم الأَوَّل لمناقشته والتَّثبت مما سمِعتَ مِن أَقْوَال -ولا نوجِب هذا-؛ لأنَّ العالِم الَّذي قرَّر ما يقول بالدَّليل قد يَكُون عند غيره دَلِيل آخر، أو يَكُون عنده من الْعِلْم أكثر مِمَّا عند غيره، وإِذَا تيقَّنت من هذا فيجب عَلَيْك الرجوع للعالِم الآخر الَّذي أفتاك، ولا يُستحب أن تذكر اسمه؛ لأنك لو رجَعتَ لتَقُول سمعت فلانًا، وهو مرتبته أَعْلَى مِن الأَوَّل رُبَّما يَهاب أنْ يُخالفه، لكن قُل سمعت وَاحِدًا من العُلَمَاء يقول كذا وكذا، ويستدل بكذا فماذا تقول؟ وهَكَذا.
ولِهَذا نَقُول: إنَّ مَسْأَلَة الفتوى ليست هينة؛ لأنَّهَا دِين، ولِهَذا قال بَعْض السَّلف: «إنَّ هَذَا العِلْمَ دِينٌ فانظُروا عَمَّنْ تَأخُذونَ دِينكُمْ».
• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: الصَّحَابَة حريصون عَلَى تطبيق عملهم عَلَى السُّنة، إذْ لم يَقُل كيف كنتم تصلون، بل قال: «كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ؟».
وَهَذَا هو أَوَّل ما يجب أن نسأل عنه، ما هي السُّنة في كذا أو كذا، فبَعْض النَّاس يَسْأَل -لَا سِيَّما في المَسْجِد الحرام- ما تقـول في كـذا وكـذا، وأنا مذهبي شافعـي، أو حنبلي؟
يريد أن نفتيه عَلَى المذهب الشَّافعي، أو الحنبلي، لكن السَّلف لم يَكُونوا كذَلِك، بل كانوا يَسْأَلون عن فِعل الرَّسول، وَهَذَا هو الوَاجِب علَيْنا؛ لأنَّ الله يقول: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب:٢١].
• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بيَان كيف كَانَ الرَّسُول ﷺ يُصلِّي الصَّلوَات المكتوبة في أوَّل وقتها.
فلنأخذ الحَدِيث كَلِمَةً كَلِمة: «يُصَلِّي الهَجِير الَّتِي تَدْعُونَها الأُولَى»، يُستفاد منه أنَّ الإِنْسَان إِذَا عبر عَلَى النَّاس بخلاف ما يعهدونه أنْ يُبيِّن لـهم، و(الهَجِير) رُبما لا يعرفها سَلامَةُ ولَا مَن كانوا في عهده؛ ففسَّرهَا لـهم، وقال: «الَّتِي تدْعُونَها الأُولَى»، فأنت إذَا خاطَبْتَ قومًا بما لا يعرفونه في لُغتِهم يجب أن تبين مَعْنَاه في لُغَتِهم إِذَا كَانَ هذا مِمَّا يجب بيانه.
• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ النَّبيَّ ﷺ يُصلِّي الظُّهر حين تزول الشَّمْس بدون تَأْخِير، ولكن هذا مُقَيَّد بقول النَّبيِّ ﷺ: «إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ»؛ فعلَى هذا يَكُون مقيَّدًا بما إِذَا لم يَشْتد الحر، أما إِذَا اشتد الحر فإنَّ السُّنة الإِبْرَاد.
ورأى العُلَمَاء أن لا إِبْرَادَ في وقْتِنَا لسَببَيْن:
السَّبب الأَوَّل: أنه قد قيل إنه رخصة.
السَّبب الثَّانِي: إذَا قلنا إنه سنة، فقد كَانَ الرَّسول ﷺ يستحب أن يؤخر من الْعِشَاء ومع ذَلِك إِذَا اجتمع النَّاس عجَّل وترك السُّنة.
• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ النَّبيَّ ﷺ يُبادر بصَلَاة العَصْر.
وجهه: أنَّ أبا بَرْزَة قال: «يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى المَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ»، وَهَذَا دَلِيل عَلَى المُبادَرَة، ومنها بسَاطة السَّلف، كيف كانوا يُقدِّرون الزَّمَن بالْعَمَل، مع أنَّ العَمَل يَخْتَلِف.
فلو فَرضنا أنَّ أحدًا صلَّى العَصْر في مَسْجِد الرَّسول ﷺ وذهب إِلَى رحلةٍ في
أقصى المدينة وهو مِن النُّشَطاء الأقْوِياء الواسعِي الخطوة، وإِنْسَان آخر صلَّى وهو يدب دبيبًا، فكم الفرق بينهما؟ الفرق كثير لا شك؛ فنَعْمَل بمثل هَذَا الحَدِيث بأنْ نسلك طريقين:
الطَّريق الأَوَّل: أنَّ المُرَاد بذَلِك الوسط لَا المشي السَّريع ولا المشي البطيء.
الطَّريق الثَّانِي: أنَّ السَّلف الصَّالح بُسَطاء في الأُمُور، لَيسَ عندهم تحرير بالدَّقِيقة؛ لِانْعِدَام سَاعات تُضبَط بالدقيقة، لكن مع ذَلِك عندهم وفاء في الوَعْد.
• الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: صراحة السَّلف الصَّالح، حيثُ صرَّح بخطئه بِقَوْلِه: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِب»، وكان بوسعه أنْ يَسْكُتَ عنها ولا يقول شيئًا، مع الْعِلْم بأنه رُبَّما في يومٍ مِن الأَيَّام يذكر فيَسُوق الحَدِيث ويذكر المَغْرِب، لكن عندهم مِن الصَّراحة والبيان ما جعلهم يتفوَّهُون بمثل هذا.
• الفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يستحب أنْ يُؤخِّر العِشَاء.
• الفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: ما ذكرْنَا في قَوْلِه: «التي تَدْعُونها العَتَمَة»، وهل قال ذَلِك عَلَى سَبِيل الموافقة، أو الانْتِقَاد؛ فيحْتَمل هذا أو هذا، لكن الرَّسول قال: «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءَ إِنِّهُمْ كَانُوا يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ» يعني لا تُسَمُّونها العَتَمة فإِنَّما هي في كتاب الله العِشَاء، كما قال تعالى: ﴿وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ [النور:٥٨]؛ فيَنْبَغِي عَلَى الإِنْسَان أنْ يُحافظ عَلَى الأَسْمَاء الشَّرعية بقدر الإمكان.
• الفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: يَنْبَغِي للإِنْسَان أنْ يكره النَّوم قبل صَلَاة العِشَاء، والحَدِيث بعدها؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- كَانَ يكره ذَلِك.
• الفَائِدَةُ العَاشِرَةُ: يَنْبَغِي للإِنْسَان أن يبتعد عمَّا يَكُون ذريعة لأداء العِبادَة عَلَى وجه الكسَل، أو لتَأْخِيرها عَن وَقْتِها؛ لأَنَّنا علَّلْنا كراهة النَّوم قبل العِشَاء بِهَذَا، فالإِنْسَان إِذَا كَانَ عنده شغل وقام بعِبادَةٍ؛ لأداها وهو غير مطمئن، فعلَيْه أنْ يقضي الشُّغل أولًا ما لم يخرج الوَقْت.
• الفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَنْبَغِي للإِنْسَان أنْ يكره الحَدِيث بعد صَلَاة العِشَاء، ومَعْلُوم أنَّ الإِنْسَان إِذَا كره الشَّيْء فَسَوْفَ يتركه ويتجنبه.
ولو تأمَّلت في حال بَعْض النَّاس -مع الأسف- تجد النَّهار صار عندهم ليلًا واللَّيل نهارًا، وأكثر النَّاس لا ينام إلَّا بعد مُنْتَصَف اللَّيل، ومنهم مَن يسهر إِلَى طُلُوع الْفَجْر، ثُم إنْ كَانَ عنده إيمان صلَّى الْفَجْر ونَام، وإلَّا نام قبل الْفَجْر وصلَّى بعد استيقاظه، هذا هو الوَاقِع، وإذَا شئت أنْ تتحَقَّق مِن هذا اخْرُج عَنِ البلَد إلَى ما حولها تجد النَّاس منتشرين في كلِّ مكان، ثُم منهم مَن يسهر عَلَى أمرٍ مُحرَّم -نسأل الله العافية-، وقد بلغني في بَعْض البلاد أنَّهُم يَصْطَحِبُون معهم آلات اللَّهو، ويُغَنُّون ويرقصون -نسأل الله العافية-، وبَعْضهم يستعمل هذا الدش الخبيث فيطَّلِع علَى كل منكَر؛ وهَذِهِ محنة في الوَاقِع يُخْشَى أنْ نُعاقَب علَيْها؛ لأنَّ الله تعالى رُبَّما يُمْلِي لنا ويستدرجنا مِن حيثُ لا نعلم.
فعلَيْنا أنْ نتَناصَح، فما لِهَذا خُلِقْنا، ولا تجعل أحدًا يُثبِّطك عَنِ الطَّاعة حَتَّى لا يُصرَف قلبك إِلَى غير الله، وانْصَح بحسب ما يَكُون عندك مِن عبارةٍ وبيَان.
• الفَائِدَةُ الثَّانِيةَ عَشْرَةَ: أنَّ الرَّسول -صلَّى اللَّهُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- كَانَ يُبادر بصَلَاة الغَداة، أي: الْفَجْر؛ لِقَوْلِه: «كَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ».
• الفَائِدَةُ الثَّالثةَ عَشْرَةَ: أنَّ الرَّسول قرأ في صَلَاة الْفَجْر بقِراءَة مُطوَّلة كَانَتْ مِن ستين إِلَى مئة.
إن قال قَائِل: فـأيُّ الآيَات الَّتي قـرأ منها بِهَذَا العدد، هل هي آياتٌ قصيرة، أو آيات طويلة؟
نقول: إِذَا لم يُنَص عَلَى أنها مِن الطُّوال أو القِصَار فليُحْمَل عَلَى المُتوسِّط.
مسألة: في قَوْلِه: «كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ؟»، وعدم سؤاله (ماذا تفعلون؟) ألَا يدلُّ عَلَى أنَّ طالب الْعِلْم المبتدئ يجب أن لا يتمذهب، بل إنه يطلب مِن كتب الفقه المقارَن الَّتي لا ترتبط بمذهب معين؟
الجَوَاب: لا بُدَّ لطالب الْعِلْم مِن مذهب يركِّز علَيْه، ويعرف قَوَاعِده، وَهَذَا في طلب الْعِلْم لا عن سَائل يَسْأَل ويُجاب علَيْه؛ لأنَّهُ لو لم يكن لطالب الْعِلْم مذهب يركز علَيْه ويجعله هو القَاعِدَة بدون أن يلتزم به التِزَامًا مُطْلقًا؛ فإِنَّه يَضِيع، ولذَلِك نرى علماء مِن الأَئِمَّة إِذَا قاموا يحكون مذاهب الفُقَهَاء؛ إِذَا بهم يحكونها غلطًا، وغير صَحِيحَة، ومبنِيَّة عَلَى غير قَوَاعِد، ولا يضرك إِذَا انتسَبْتَ إِلَى مذهب مُعَيَّن، لكن لا عَلَى وجه الالتِزَام به حقًّا كَانَ أو بَاطِلًا، وكثير مِن العُلَمَاء الأجلاء انتسبوا إِلَى مذاهب كالنَّووِي وغيره.
ذكر المُؤَلِّف حكم تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقْتِها إِذَا كَانَ لعذر، هل تُصَلَّى أو لَا تُصلَّى، فقال:
----------------------------
كتاب مواقيت الصَّلاة، باب وقت العصر، رقم (٥٢٢).
كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، رقم (٦٣٨).
أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول، رقم (١٧).
كتاب الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، رقم (٢٩٨)، ومسلم: كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، رقم (٣٧٣).
كتاب الخُمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي ﷺ، رقم (٢٩٣٤).
الطبقات الكبرى لابن سعد (٦ / ١٧٢).
شرح مسلم للنووي (١ / ٨٤).
كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٥١١)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (٦١٥).
كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب سجود التلاوة، رقم (٥٧٨)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:53