"حديث يُزلزل القلوب: النبي ﷺ يهمّ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة"

أثر القرآن
0

النبي ﷺ يهمّ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة"

الحديث: عن  أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ  أَثْقَلَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، صَلاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَما لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمٌ مِنِ حَطَبٍ، إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».

■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

________________________________________

عن أبي هريرة .

قَوْله: «أَثْقَلَ»: مبتدأ، و«صَلَاة»: خَبَره.

وقَوْله: «الصَّلَاة»: المُرَادُ بها هنا الجِنس، ولِهَذا قال: «صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ» فذكر اثنتين، مع أنَّ الصَّلَاةَ مفردٌ؛ للدلَالة عَلَى أنَّ المُرَادَ بالصَّلَاةِ هنا الجِنس.

وقَوْله: «أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ»: لماذا المُنافِقين؟ لأنَّهم إنَّما يصلُّون ليراؤُوا النَّاس، وصَلَاة العِشَاءِ وصَلَاة الْفَجْرِ في عهد الرَّسولِ ﷺ لَيسَ فيهما مُرَآةٌ؛ لأنَّ النَّاس في ظُلمةٍ لا يراهم أحدٌ إِذَا وُجِدوا أو تخلَّفوا، هذا من وجهٍ.

من وجهٍ آخر، أنَّ صَلَاةَ العِشَاءَ في ابتداءِ النَّومِ، وصَلَاةَ الْفَجْرِ في نهايةِ النَّوم، فهم غاطُّون في نومِهم، لا يُوقِظُهم إيمان، ولا يردعُهم رادعٌ عَنِ الاسْتِمْرَار في النَّوم.

والمُنافِق: هو الَّذي أظهر الإِسْلامَ وأبطنَ الكفر، وسُمي مُنافِقًا تشبيهًا له باليَربوع، واليَربوع: دُويبةٌ أَرْضية، تحفِر لـها جُحرًا في الأَرْض، وتجعل له بابًا تدخل مِنه وتخرج، وفي نهايتِه تحفِر صاعدةً إِلَى سطح الأَرْض، حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلا قِشرةٌ رقيقة، أمسكتْ عَنِ الحَفْرِ، و• الفَائِدَةُ مِن ذَلِك أنَّه إِذَا هجم علَيْها شَيْءٌ مِن الباب؛ خرجت مِن هذا القِشرِ الرَّقيق؛ فلِهَذا سُمي كلُّ شَخْصٍ يُظهر الخَيْرَ ويبطنُ الشَّرَ باليربوعِ المُنافِقِ الَّذي اتخذ له نافقًا.

وبقيةُ الصَّلوَاتِ ثقيلةٌ علَيْهم، ولكنَّ هاتَيْنِ أثقلُ الصَّلوَات، وإِنَّما كانتا أثقلَ؛ لسَببين:

السَّبب الأَوَّل: مشقَّةُ الذَّهاب إِلَيْهما.

السَّبب الثَّانِي: خَفَاءُ الرِّياءِ فيهما؛ لأنَّ العِشَاء والْفَجْر يؤديهما النَّاس في ظُلمةٍ، ولَا سِيَّما في عهد الرَّسُولِ ﷺ فلا يُرَى المُنافِقُ إِذَا جاء يُصلِّي، والمُنافِقُ إِنَّما يرائي النَّاس بذَلِك؛ لأنَّهُ ليست عنده إِرادَةٌ للآخرة، وإِنَّما يريدُ الدُّنيا، وأن يمدحَهُ النَّاس عَلَى شَيْء لم يَقُمْ به.

وقَوْله: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ» الضميرُ يعود عَلَى المُنافِقينَ.


قَوْله: «مَا فِيهِمَا»: أي: في صَلاتَيِ الْعِشَاء والْفَجْرِ، من الثَّواب أو العقاب عَلَى التَّرك، فهو يَشْمَل هذا وَهَذَا، وإنْ كَانَ ظَاهِرُه لو يعلمون ما فيهما مِن الثَّواب؛ لكنَّ التعميمَ أولى، أي لو يعلمون ما فيهما مِن الثَّوابِ عَلَى الْفِعْل والعقاب عَلَى التَّرك.

وقَوْله: «لَأَتَوْهُمَا وَلَـوْ حَبْوًا»: أي ولـو كانوا يَحْبُونَ حَبْوًا.

والحَبْو: هـو مشي الإِنْسَانِ عَلَى دُبُرِه يدفع نفسَه.

وقَوْله: «وَلَقَدْ هَمَمْتُ»: اللَّام هنا يقول المُعْرِبون: إنَّها مُوَطِّئةٌ للقَسَم؛ أي أنَّها تدلُ عَلَى قَسَمٍ مُقَدَّر، تقديرُه: والله.

مثل هذا التَّركيب يَكُون مُؤَكَّدًا بثَلاثَةِ مُؤَكِّدَاتٍ:

الأَوَّل: القَسَمُ المُقَدَّر، وتقديره: والله.

والثَّانِي: اللَّامُ في قولِه: «لقد».

والثَّالث: (قد).

فيَكُـون إعراب هذا التَّركيب (لقـد): اللَّام: مُوَطِّئةٌ للقَسَم، و(قـد): حرف تحقيق.

لو سأل سَائل: هل يلزم وُجُود اللَّام في القَسَم؟

الجَوَاب: لا يلـزم، فقـد يَكُـون القَسَم بدون ذِكـر اللَّام، مثل قَـوْله تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشَّمْس:١] إِلَى قَوْله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشَّمْس:٩]، وقد تأتي اللَّام كما في هَذِهِ الآية، وكما في قَوْلِه تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:٤].

وقَوْله: «وَلَقَدْ هَمَمْتُ»: هَمَمْت: أي هَمُّ عَزْمٍ، يعني: أردْتُ أنْ أفعلَ.

وقَوْله: «أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ»: أي جَماعَة.

وقَوْله: «ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»: أي جَماعَة.

وقَوْله: «ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ»: هَمَّ بذَلِك لكنَّه لم يفعل؛ لأنَّه لمْ يُؤْذَنْ له مِن قِبَلِ اللَّ‍هِ ، والنَّبِيّ ﷺ لنْ يفعلَ شيئًا إلا بإذنِ اللَّ‍هِ، فلمَّا لمْ يأذن اللَّ‍هُ له بذَلِك عَدَلَ عن همِّه .

وورد في المسند أنَّ العِلَّةَ في عدم التَّحريق؛ لـما فيها من النِّسَاء والذُّرية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، لَأَقَمْتُ الصَّلَاةَ، صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ»؛ لكن هَذِهِ الزِّيادة شاذَّة، ولِهَذا لم نُعَوِّلْ علَيْها، وقُلْنَا: إنَّه لمْ يفعلْ لأنَّ الله لمْ يأذنْ له في ذَلِك.

وسواءٌ صحَّ هَذَا الحَدِيثُ، وكان هذا هو المانعَ، أو كَانَ المانعُ شيئًا آخرَ لـم نعلمْه؛ فإنَّ هَمَّ النَّبِيّ ﷺ أن يُحْرِقَ بيوتَ المتخلِّفين عَنِ الجَمَاعَة، ليدلُّ عَلَى أَهَمِّيَّة الجَمَاعَةِ، وأنها وَاجِبَةٌ؛ لأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لا يُمْكِنُ أنْ يَهُمَّ بأمرٍ محرَّمٍ، ولكن منعَه منه مانعٌ؛ إما أن يَكُون ما فيها من النِّسَاء والذُّرية، أو غيرُ ذَلِك.

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: أنَّ المُنافِقين تثقُل علَيْهم الصَّلَاةُ؛ وذَلِك لعدم الإِيمَان في قُلُوبهم، وكُلَّما كَانَ الإِنْسَانُ أقوى إيمانًا؛ كَانَ صدرُه أشَدَّ انشراحًا بالصَّلَاة، ولِـهَذا قال: النَّبِيّ ﷺ: «حُبِّبَ إِلَـيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، فكُلَّما وجدتَ من قلبِك انفتاحًا، وفي صدرِك انشراحًا للصَّلاة؛ فاعْلَمْ أنَّك قَوِيُّ الإِيمَان، وكُلَّما ثقُلت عَلَيْك الصَّلَاة؛ فاعْلَمْ أنَّك ضَعِيفُ الإِيمَان.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: أنَّ المُنافِقين يُصلُّونَ لكن بثِقَل، كما يشهد لذَلِك قَوْله تعالى: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النِّسَاء:١٤٢].

• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ مَن ثقُلَتْ علَيْه الصَّلَاةُ؛ فإنَّه مشابهٌ للمُنافِقين في ذَلِك، فيَكُون فيه شعبةٌ مِن النِّفاق.

فإن قال قَائِل: إِذَا ثقُلتِ الصَّلَاةُ عَلَى الإِنْسَان ولكنَّه جاهد نفسَه حَتَّى فعلَها، أفلا يَكُون مجاهِدًا؟ فالجَوَاب: بلا، يَكُون مجاهدًا.


لكنْ من فعل العِبادَة بطِيبِ نفسٍ وقلبٍ مطمَئن؛ فإنَّه أَعْلَى مرتبةٍ ومنزلةٍ مِن الَّذي يفعلُها مع الجِهَاد، ولا شَكَّ أنَّه يُؤْجَرُ عَلَى الجِهَاد؛ لكنَّ الأولَ أفضل، فعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «المَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، فَلَهُ أَجْرَانِ»، فذكر أنَّ الأولَ أَعْلَى مرتبةٍ، لأنَّه ماهرٌ بالقُرْآن، يقرؤه بسُهُولَة وانطلاق.

إذن نَقُول: من وجد في قلبه ثِقَلًا في الصَّلَاة؛ فعلَيْه أنْ يصححَ إيمانَه لأنَّ في قلبِه شُعبةً مِن نفاق، وإِذَا رأيتَ مِن نفسِك ثِقَلًا في الصَّلَاة؛ فحاول أنْ تُجْبِرَها وأنْ تُكْرِهَها، وثِقْ بأنَّك إِذَا فعلتَ ذَلِك مِرارًا فَسَوْفَ تَكُونُ عَلَيْك -بإذن الله- سهلةً في المستقبل.

• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ كلَّ مَن كَانَ يفعلُ الشَّيْء رِياءً؛ فَسَوْفَ يُثْقَلُ علَيْه إِذَا لمْ يجدْ فرصةً للرِّياء، دَلِيلُه قَوْله: «أَثْقَل صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ».

إذن، إِذَا رأى الإِنْسَان مِن نفسِه أنَّه عند النَّاسِ تَسهُل علَيْه العِبادَة، وفي غياب النَّاسِ تَثْقُلُ علَيْه؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ في قلبِه رِياءً ونِفاقًا.

• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: فَضِيلَةُ حُضُورِ صَلَاةِ العِشَاء والْفَجْر، لِقَوْلِه: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

• الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ المُنافِقين إنَّـما يسعـون لمصالحهـم الذَّاتية، بدَلِيل أنَّهـم لو علموا مَصْلَحَةً؛ لأَتَوْا ولو حَبْوًا عَلَى أدبارهم لا عَلَى أقدامهم، ولِـهَذا جاء في الحَدِيث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ، أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ العِشَاءَ».

والعَرْق: هو العَظْم الَّذي لَيسَ به لحمٌ.

والمِرماة: ما بين أظلاف الشَّاة أو ما بين أضلاعها.

والمَعْنَى: لو يجد المُنافِقُ شيئًا زهيدًا من الدُّنيا؛ لَشَهِدَ الْعِشَاء.

• الفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: حِرصُ النَّبِيّ ﷺ عَلَى أداء الصَّلَاةِ في جَماعَة؛ لأنَّه هَمَّ أنْ يُحَرِّقَ المُتخلِّفَ عنها بالنَّار، وَهَذَا يدُلّ عَلَى حرصِه عَلَى ذَلِك، وأَهَمِّيَّةِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ عندَه،

يبين ذَلِك أنَّه مِن المَعْلُومِ أنَّ النَّبي ﷺ بالمُؤمِنينََ رؤوفٌ رحيم، وأنَّ مَن عزَّرَ إِنْسَانًا بتحريقه في النَّار؛ فإنَّ ذَلِك يعني أنَّه لا رأفةَ ولا رحمةَ يستحقُّها هذا الَّذي يُحَرَّق.

• الفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: الوعيدُ عَلَى مَن تخلف عَنِ الجَمَاعَة؛ لأنَّ الرَّسول ﷺ منع أنْ يُحرِّقَهم، لكنَّ هَمَّه بذَلِك يدلُّ عَلَى استحقاق المُتَخَلِّفِ للتَّعزير بالنَّار.

• الفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّه يَجُوز للآمر بالمعروف والنَّاهي عَنِ المنكر أن يتخلف عن صَلَاة الجَمَاعَة، مِنْ أجْلِ الْقِيَامِ بمهمتِه، وَهَذَا يُؤْخَذ من قَوْله: «أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ»، فإِذَا انطلق إِلَى هؤُلاءِ المتخلفين -مع أنَّ النَّاسَ يَؤُمُّهم رجل- لزِم من ذَلِك أنْ يتخلَّفَ عن صَلَاة الجَمَاعَة، ولأنَّ هذا الَّذي يتخلَّف عن صَلَاة الجَمَاعَةِ مِنْ أجْلِ الأَمْرِ بالمعروف والنَّهي عَنِ المنكر سَوْفَ يدركُ ذَلِك فيما بعد؛ إذ إنَّه سَوْفَ يُصلِّي ومَن معه جَماعَة.

• الفَائِدَةُ العَاشِرَةُ: أنَّه يجب حُضُورِ الجَمَاعَةِ في المَسَاجِد؛ لأنَّه قال: «بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ»، هؤُلاءِ القوم جَماعَة لو شاؤوا لأقاموا الجَمَاعَةَ في مسَاكنِهم، لكنَّ الرَّسول ﷺ ألزمهم أنْ يحضُروا إِلَى الجَمَاعَة في المَسَاجِد، وَهَذَا الْقَوْل هو الرَّاجح في أنَّه يجب أنْ تُصَلَّى الجَمَاعَةُ في المَسَاجِد، وأنَّ ذَلِك فَرضُ عينٍ ولَيسَ فَرضَ كِفَايَةٍ فحَسْب.

ولو سَأَلَ سَائِلٌٌ: هل يَجُـوز في الشَّريعَة الإِسْلاميةِ أنْ يُعَـزَّرَ أحدٌ بالإحـراقِ بالنَّار؟

والجَوَاب: الأَصْل أنِّه لا يَجُوز؛ لأنَّ التَّحريقَ بالنَّار شديدٌ جدًّا، ولا يُعَذِّبُ بالنَّار إلا خالقُها ، لكن ورد عَنِ الصَّحَابَة  أنَّهم حَرَّقُوا اللُّوطِيَ في عهدِ أبي بكرٍ ، فيُحملُ ذَلِك عَلَى أنَ هذا من باب التَّغليظِ في التَّنفير عن هَذِهِ الفاحشة.

فإنْ قال قَائِل: إِذَا لـمْ يندفعِ الأَذَى إِلا بالإِحْرَاق، كإِنْسَانِ عندَه نملٌ آذاه، ولـمْ يتمكنْ مِن رفعِ الْأَذَى عنه إلا بإحراقِها، فهل يَجُوز؟

والجَوَاب: نعم، إِذَا لمْ يكنْ طريقٌ إلا الإحراقُ فلا حَرَجَ، ودَلِيلُ ذَلِك أن أَبَا هُرَيْرَةَ  قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّ‍هِ ﷺ يَقُولُ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّ‍هُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ»؛ لأنَّ النَّمل لمْ يقرِصْه كله، لكنَّ وَاحِدَةً مِنه، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ  قَالَ: «حَرَّقَ النَّبِيُّ ﷺ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ»، ومَعْلُومٌ أنَّ النَّخلَ عَادَةً لا يخلو من طيورٍ وحشراتٍ ومَا أَشْبَهَها.

وبناءً عَلَى ذَلِك، يَكُون ما يصنعُه بَعْضُ المزارعين إِذَا حصد الزَّرع، أَوْقَدَ في الأَرْض مِن أجل إزالةِ النَّوابتِ الضَّارةِ بالزَّرع، يَكُون هذا الْفِعْلُ جائزًا؛ لأنَّ الَّذي يَحْرِقُ الأَرْضَ لا يقصد أنْ يَحرِقَ ما فيها مِن نملٍ وطيورٍ ومَا أَشْبَه ذَلِك، وإنَّما يقصد إحراقَ الزَّرعِ المؤذي للزَّرعِ المَقْصُود.

ولِـهَذا، أجاز العُلَمَاء  أنْ تُرمى القريةُ الكَافِرةُ المحاربةُ بالمَنْجَنِيق، مع أنَّ المَنْجَنِيقَ سَـوْفَ يقتل من لا يَجُـوز قتلُه مِن الأطفـال والنِّسَاءِ، لكـنْ يثبتُ تَبَعًا ما لا يَثْبُتُ استقلالًا بالتَّبَعية، حَتَّى إنَّ العُلَمَاءَ  قَالُوا: لو أنَّ الكُفَّار تَتَرَّسُوا بصَفٍّ من المُسْلِمينَ عند القتال، بأن جعلوا صَفًّا بينهم وبين المُسْلِمينَ من المُسْلِمينَ، فهل يَجُوز أنْ نقاتلَ هؤُلاءِ عَلَى الرَّغم مِن أنَّنا سَوْفَ نقتُل هذا الصَّفَّ أو لا؟

قال العُلَمَاء : إنَّه يَجُوز حَتَّى وإنْ قتلنا المسلمَ؛ لأنَّه لا يُمْكِن قتالُ الكُفَّارِ إلا بذَلِك.

قال شيخ الإِسْلام : «وهؤُلاءِ الَّذِين قُتلوا مِن المُسْلِمينَ، هؤُلاءِ يُرجى لـهم الخَيْر».

وأقول: رُبَّما يَكُونون مِن الشُّهداء؛ لأنَّ قتلَهم مِنْ أجْلِ إعلاءِ كَلِمَةِ اللَّ‍هِ بقتال الكُفَّارِ الَّذِين وراءهم، وهَذِهِ القَاعِدَة وهي أنَّه: يَثْبُتُ تَبَعًا مَا يَثْبُتُ اسْتِقْلَالًا، لـها فروعٌ كَثِيرَة، وقد ذُكِرَتْ في نَظْمِ القَوَاعِد:

قَدْ يَثْبُتُ الشَّـيْءُ لِغَيْرِهِ تَبَعًا *** وَإنْ يَكُنْ لَوِ اسْتَقَلَّ لَامْتَنَعْكَحَامِلٍ إِنْ بِيعَ حَمْلُهُ امْتَنَع *** وَلَوْ تُبَاعُ حَامِلًا لَمْ يَمْتَنِعْ• الفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إن الثَّوابَ أو العِقابَ أمرُه عَظِيمٌ، فلو أنَّ الإِنْسَانَ مشى عَلَى رُكَبِه مِنْ أجْلِ الهُروب من العِقاب، ومِنْ أجْلِ الحُصول عَلَى الثَّواب، لكان جديرًا بذَلِك، نحن أَحْيانًا نختارُ النَّومَ، وأَحْيانًا نختارُ الفاقِدَ، وأَحْيانًا نختارُ الصَّريدَ، وقد نختارُ لغَيْر سَبَبٍ.

----------------------------

كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة، رقم (٦١٨)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، رقم (٦٥١).

أخرجه أحمد (٢ / ٣٦٧ رقم ٨٧٨٢).

كتاب عشرة النِّساء، باب حب النِّساء، رقم (٣٩٣٩).

كتاب التفسير، باب تفسير سورة عبس، رقم (٤٦٥٣)، ومسلم: كتاب صلاة المُسَافِرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، رقم (٧٩٨).

كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة، رقم (٦١٨).

كتاب الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، رقم (٢٨٥٦)، ومسلم: كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، رقم (٢٢٤١).

كتاب المزارعة، باب قطع الشجر والنخل، رقم (٢٢٠١)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب جَوَاز قطع أشجار الكُفَّار وتحريقها، رقم (١٧٤٦)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها /حديث رقم:64

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)